• الصلاة القادمة

    الظهر 11:01

 
news Image
منذ ثانية واحدة

تأتي حادثة قتل العشرات من رجال الشرطة المصرية بمنطقة الواحات حلقةً في سلسلة طويلة من استهداف النظام السياسي في مصر، تصاعدت وتيرتها منذ صيف 2013 بعد إجهاض ثورة 25 يناير. فلماذا وصل العنف إلى هذا الحد؟ وهل من سبيل للخروج من هذه الأوضاع وإعادة السياسة إلى المساحة السلمية؟

شرعية العنف
للعنف السياسي في الدولة المعاصرة صور متعددة؛ ففي الدول الديمقراطية الحديثة تحتكر مؤسسات السلطة (وهي مؤسسات تتمتع بشكل عام بشرعية شعبية وتخضع لرقابة متعددة لضمان تطبيق القانون على الجميع) العنف، وتستخدمه لتحقيق أمن المواطنين وملاحقة الجريمة والخارجين على القانون من اللصوص والمفسدين والمجرمين.

أما في أنظمة الحكم المطلق، فإن أجهزة السلطة -التي تحتكر العنف- تستخدمه في المقام الأول لحماية النظام الحاكم، وملاحقة المعارضين ومنعهم من تهديد امتيازات النخبة الحاكمة وحلفائها من المنتفعين.

وتوجد داخل هذا الأنظمة أجهزة بوليسية (يُطلَق عليها "الدولة البوليسية" وترتد جذورها إلى التاريخ الأوروبي القريب، لكن لا علاقة لها بالدولة الحديثة)، حيث تتحكم أجهزة أمنية في الحكم وتهيمن على كل مؤسسات الدولة، وتستخدم العنف بشكل مفرط، إذ ترى في كل من لا يصطف مع الحكم خصما يجب قمعه بالقتل أو السجن أو النفي.

هذه الأنظمة الأخيرة تعتمد على العنف في بقائها واستمرارها، وهي تقترب من صورة الحكم المعروفة منذ الفكر الإغريقي القديم باسم "كليبتوكراسي" (kleptocracy) أي حكم اللصوص، ويَستغل فيه الحاكم أو الفئة الحاكمة مواردَ البلاد من أجل الانتفاع الشخصي، فتتضخم ثروات الحاكم والفئة المحيطة به من الأتباع والأهل ويعم الفساد والإفساد.

تقوم معادلة الحكم هنا على الصراع الصفري بين النظام وخصومه، الذين يوصفون من قِبل النظام بالإرهابيين. وقد شهدت بعض تلك الدول "حركات تمرد" تستهدف إسقاط النظام وإقامة نظام جديد على أنقاضه، باعتباره -عند حركات التمرد تلك- يمارس "إرهاب دولة" منظما.

تظهر إذن "حركات تمرد" لتتصارع مع الدولة البوليسية بنفس المعادلة الصفرية. وهذه وُجدت في بعض دول أوروبا وأميركا اللاتينية وأفريقيا وآسيا بأشكال مختلفة، وبعضها قد يستهدف المدنيين فتوصف بـ"الإرهاب" من قبل النظام ومن دول ومنظمات أخرى.

والأمر المهم هنا هو أنه كلما ازداد عنف الأنظمة الحاكمة ارتفعت احتمالات ظهور حركات تمرد مسلحة، وكلما كان النظام أكثر انفتاحا وهناك مساحة من العمل السياسي السلمي، قلّت احتمالات ظهور حركات معارضة مسلحة. والاستثناءات قليلة في الحالتين.

وهذا يعني أن فقدان شرعية استخدام العنف واستخدام النظام لهذا العنف ضد معارضيه، يشرعن استخدام العنف من آخرين ضد النظام لتحقيق أهداف مختلفة، قد يكون منها إعادة بناء نظام جديد يكون العنف فيه شرعيا لتحقيق الأمن والعدل للجميع، أو للاستيلاء على الحكم وممارسة السلطة بنفس الطريقة لصالح فئة أو فئات أخرى، أو لاستقلال أحد الأقاليم.

وربما يكون التمرد من تحريك فئات خارجية لتقسيم الدولة أو إدخالها في فوضى عارمة، أو إجهاض ثورة شعبية تنادي بالعدالة والحريّة والكرامة.

في جميع هذه الحالات، تبين أن العنف هو أسوأ الطرق لتغيير نظم الحكم، وأن الأنظمة التي تظهر في أعقاب الصراعات المسلحة أو الحروب الأهلية عادة ما تكون ضعيفة وبعيدة عن مبادئ حكم القانون والعدالة والشفافية ودولة المؤسسات، هذا إذا تغير النظام فعلا. ففي حالات كثيرة يستمر النظام القديم بصورة أو أخرى بعد سحق الحركات المسلحة، كما حدث في الجزائر.

وتُبين تجارب الآخرين أيضا أن العنف (في شكل حركات نضال مسلحة) من أكثر الطرق فاعلية في الحصول على الاستقلال عن محتل خارجي أو على الانفصال. ولعل أهم تجربتين هنا ما حدث في جنوب أفريقيا وإيرلندا الشمالية. لكن لهذا التغيير العنيف شروطه، وأهمها توفر رؤية لإدارة الصراع، وجناح سياسي، وظهير شعبي أو حاضنة مجتمعية، وربما أيضا دعم خارجي.

ورغم استخدام الوصف المتبادل بالإرهاب من الطرفين (الدولة المطلقة أو البوليسية) وخصومها (الحركات المعارضة ولا سيما المسلحة منها)؛ فإنني لا أرى أن استخدام كلمة "الإرهاب" أمر مفيد هنا.

فلا يمكننا أن نساوي بين عنف (نسميه إرهابا) تمارسه جماعة مسلحة تجاه المدنيين والمؤسسات في دولة بها حد أدنى من شرعية استخدام العنف وحد أدنى من حكم القانون والرقابة والشفافية، وبين عنف تمارسه حركة مسلحة تجاه نظام سياسي لا تقوم شرعيته إلا على العنف تجاه كل من لا يصطف مع النظام ويرضخ لمطالبه.

لا يمكن المساواة بين هذين النوعين من العنف مع اعترافنا بعيوب ومثالب الدولة المعاصرة، وتدخل أجهزتها في حياة الإنسان والمجتمع بأدوات متعددة سلمية وعنيفة في بعض الأحيان.

العنف في مصر 
تعد مصر -منذ إجهاض ثورة يناير/كانون الثاني في صيف 2013- أقرب إلى نظام "الدولة البوليسية"؛ فشرعية النظام لا تقوم داخليا إلا على العنف وتحويل مصر إلى دولة الرأي الواحد.

ويدعي النظام امتلاك القدرة على تحقيق الأمن والاستقرار بينما تشهد البلاد عمليات عنف لم تشهد مثيلا لها في تاريخها المعاصر، سواء من قبل النظام ضد معارضيه، أو من قبل معارضيه ضد رجال الشرطة والجيش وبعض القضاة.

تقوم شرعية العنف لدى النظام على دعامتين أساسيتين: الأولى هي سلسلة من الأكاذيب والمغالطات تصنعها أجهزة أمنية سرية (تختلف عن الجسم الكبير للمؤسسة العسكرية)، وربما تكون موجهة من الخارج، ويُروّج لها عبر أذرع إعلامية.

والدعامة الثانية هي الدعم الخارجي المباشر المقدم في شكل تدفقات مالية بالمليارات من دول خليجية أساسا، بجانب التحالفات والرعاية الخارجية (الغربية والشرقية) التي يهمها في المقام الأول منع ظهور حكومات وطنية منتخبة (تضع مصالح شعوبها في المقام الأول)، وتهمها أيضا الصفقات العسكرية والتجارية ولو على حساب حقوق الإنسان والحريات، فهذا ديدن الغرب منذ عقود طويلة.

وتقنن قوانينُ الطوارئ (وأشباهها كقوانين الاٍرهاب والكيانات الإرهابية وكذلك بقية القوانين المقيدة للحريات والمجتمع الأهلي والمدني وخلافه) قمعَ وعنفَ الدولة للحصول على شرعية زائفة.

إذن، وبعيدا عن استخدام خطاب "الإرهاب" الذي لا معنى له تقريبا في الحالة المصرية؛ تقوم معادلة الحكم في مصر على الصراع الصفري، الكل في خدمة الفئة المتحكمة، والكل عدو وخصم لهذه الفئة إذا لم يرضخ، وعنف أجهزة الدولة يشرعن العنف لدى خصومها، ويعرض المجتمع كله للخطر.

ولهذا من الطبيعي أن تظهر "حركات تمرد" مسلحة تتصارع مع الدولة البوليسية بنفس المعادلة الصفرية. وفي حالتنا؛ فإن حركات التمرد هذه حركاتٌ تستخدم الإسلام مرجعية لها، وهو ما يعقّد المسألة أكثر.

منذ يوليو/تموز 2013؛ قامت أجهزة الدولة البوليسية في مصر بقتل الآلاف واعتقال عشرات الآلاف، وأصدرت أحكاما جزافية في حق الآلاف، كما أنها هيمنت على كافة المؤسسات بما في ذلك مؤسسات الجيش والشرطة والقضاء، وقامت بتوريطها في صراعها الصفري مع خصومها، فتسببت في تقسيم المجتمع وإفساد مؤسسات الدولة.

أما خصوم النظام المسلحون فهم أقرب إلى حركات التمرد التي تظهر كرد فعل على العنف المنظم والمفرط من قبل النظام. وقد قتلت هذه الحركات المئات من الجنود في حوادث كان آخرها عملية الواحات، التي راح ضحيتها أكثر من 50 جنديا وضابطا من الشرطة في يوم واحد.

العنف والعنف المضاد لن يوصل البلاد إلى دولة العدل والقانون والشفافية، لا لأن العنف ليس الطريق الأفضل لتغيير أنظمة الحكم، ولكن أيضا بسبب أنني أعتقد أن هذه الحركات في مصر لا تمتلك لا الظهير الشعبي أو الحاضنة المجتمعية، ولا الرؤية الحقيقية للتغيير الشامل، ولا بالطبع الجناح السياسي.

كما أنني لا أستبعد اختراق حركات التمرد هذه من جهات أجنبية لإضعاف مصر وجيشها، تمهيدا لتقسيمها حسب المخططات التي ترسم للمنطقة كلها منذ عقود. هذا ناهيك عن جغرافية مصر التي تصعب معها حروب العصابات.

إن المشكلة -في واقع الأمر- ليست في وصف "الإرهاب" ومن هو "الإرهابي الحقيقي"، وإنما في "الظروف" التي أوجدت هذه الأوضاع، أي المعادلة الصفرية التي صنعها النظام وممارساته القمعية والإقصائية.

وسيستمر الصراع الصفري ما دمنا نتجاهل طبيعة النظام البوليسي، وما بقيت المعارضة منقسمة ومخترقة وغير قادرة على تبني هدف واحد، يركز على تفكيك الحكم المطلق، وإنقاذ المجتمع والدولة، وإعادة المؤسسات إلى أدوارها الرئيسيّة، وإقامة حكم القانون والعدالة على الجميع.

قد يقول قائل إننا جربنا الانفتاح والحريات منذ يناير/كانون الثاني 2011 حتى يونيو 2013. هذا غير صحيح، فالنظام القديم وأجهزته الأمنية وحلفاؤه الإقليميون والدوليون كانوا يعملون ليل نهار على إجهاض الثورة، وقد نجحوا في هذه الجولة بسبب ضعف وانقسام القوى السلمية، وتسابقها على المكاسب الشخصية والضيقة وضيق أفقها واختياراتها الكارثية.

كما أن تلك الفترة الوجيزة التي تلت ثورة 25 يناير شهدت بالفعل قيام الكثير من التنظيمات السياسية والمجتمعية السلمية، كالأحزاب والنقابات ومنظمات المجتمع المدني والأهلي والتطوعي. وكان من الممكن لهذه التنظيمات أن تتطور إلى الأفضل لو وجدت قوى وقيادات وطلائع سياسية قادرة على فهم وقراءة الواقع جيدا، والتفاعل معه بأدوات العصر المناسبة. والله أعلم.

أضف تعليقك