فقط 48 ساعة تفصل بين فضيحة الانكشاف الأمني في مدينة العريش وفاجعة الانهيار الشامل في منطقة الواحات في الصحراء الغربية المصرية.
بلغت حالة البلادة والخيبة، في العريش، أن الإرهابيين يفرضون الهيمنة على الشوارع في عاصمة سيناء الشمالية، ويقتحمون بنوكا، ويستولون على الأموال، ويقتلون من يقف في طريقهم، ويعودون إلى حيث أتوا، من دون أن يستوقفهم أحد.
وفي الواحات، أدمت قلوبنا روايات عما جرى، عادت بنا إلى تلك الأجواء الكابوسية المخيفة في نكسة يونيو 1967، حين أفاق المصريون من حلم القدرة الكاذبة، على كابوس العجز التام، وكانت صور الجنود الذين يهيمون على وجوههم، يغوصون في رمال الهزيمة، ممزقي الثياب، مهلهلي الروح، أكثر إيلاماً من ضربات العدو.
قبل صيف العام السابع والستين من القرن الماضي، كان الإعلام الرسمي يمور بخطاب القوة الفائقة، وحواديت القاهر والظافر، في استعراضٍ متغطرس لتفوق الترسانة العسكرية، وفي خريف العام 2017 كانت امتدادات الإعلام ذاته تحتفي وتهلل للنسخة الرخيصة من زعامة الستينيات، وهو يلهو ويمرح، متفقداً ترسانته من الغواصات المدمرة وحاملات الطائرات العملاقة. وفي المناسبتين، اكتشف المصريون الخديعة الكبرى، بعد أن أفاقوا على كارثتين، أو، بالأحرى، كارثة واحدة في زمنين مختلفين.
ثمة فروق بين الستينات والآن، ذلك أن سلطة الستينيات لم تكن رهينة القرار الإسرائيلي والإرادة الصهيونية، مثل السلطة الحالية. نعم كان هناك استبداد وطغيان، فيما يخص الحقوق والحريات الخاصة، غير أنه كان هناك عدو خارجي واضح ومعروف للكافة.
أما مع السلطة الحالية، فإن ممارسة الاستبداد والطغيان تتم لمصلحة العدو الصهيوني، وبتخطيطه وإدارته الكاملة، بحيث باتت الدماء تراق والحقوق تهدر والأرض تحرق والمجتمع يتمزق، شراء لرضا العدو، واستدراراً لدعمه.
في مثل هذه الأيام من العام الماضي، كانت كارثة اغتيال قائد الفرقة التاسعة في الجيش المصري، العميد عادل رجائي، أمام منزله بالقاهرة، كانت ملابسات العملية تشبه كثيراً ملابسات عملية تصفية ضباط النخبة في الأمن المصري، في منطقة الواحات، وكالعادة، يكون كل اهتمام السلطة مركزاً على أفضل عوائد استثمار للفاجعة، إن على مستوى الخارج، من خلال تجديد رخصة الطغيان، أو على مستوى الداخل، بالتوسع في مصادرة الحريات والحقوق، والعبث بالتشريعات والقوانين، واللهو بأعمال التصفية والقتل خارج القانون، والإفراط في قرارات الإعدام، والتغييب الكامل للعدالة.
في هذا المناخ، تكون الظروف مهيأة لأنواع مكرّرة من أعمال ما يمكن وصفها "مومسة فكرية" ينشط فيها بعض أكاديميين يرهبون الجماهير، ويبتزونها: إما أن تكون مع السلطة بلا شروط أو أسئلة أو أن تصنف داعماً للإرهاب!
لقد تحولت مصر، على يد هذه السلطة والمبرّرين لها، إلى مرعى للقتل، يمتلكه مجنون واحد، فيصير الجميع ضحايا للخوف والقمع والظلم، وأيضاً مجرمين بالسكوت، متواطئين بالعجز، وكما قلت سابقاً، تنتقل البلاد من كونها مقبرة للغزاة إلى محرقة للمعارضين والثائرين المحبين لها، على يد سلطةٍ أول ما نطقت به أنها طلبت تفويضاً بالقتل والإبادة.
نعم، هي دولة تحتفي بحثالات النازيين والفاشيين والمكارثيين، وتقدّمهم، وتصفّق لهم، حين يرددون أناشيد الإبادة والاستئصال، وتصادق أعداءها وتحارب أشقاءها، وتنحط بمفهوم الوطنية إلى مستوى رقص ماجن وخليع بالعلم، بعد مباريات الكرة، وفي أثناء حصار التظاهرات المعارضة، بينما على الضفة الأخرى من الوطن المستباح، تدور عمليات ومحاكمة أطفال، وقتل صبايا وفتيات بالرصاص في التظاهرات والتوحّش والتعذيب في المعتقلات، وتبتز المنح والمساعدات، وتزرع البذاءة، بدلاً من القمح، وتعلن الحرب على الحياة.
دولة مستغرقة في تنمية الكراهية والقبح والانحطاط الإنساني، وتوفير كل الدعم لحروبها، على مواقع التواصل الاجتماعي، وتنمية جيشها الإلكتروني وتطويره، بإطلاق موجاتٍ من الجراثيم والحشرات، تروج نوعا من الوطنية المصنعة في ورش تل أبيب، وتحارب ثوابت التاريخ والجغرافيا، وتعادي قيم الدين والعرف..
كيف يمكن لدولةٍ بهذه الروح أن تنمو اقتصادياً أو تستقر اجتماعياً أو تتطور أمنياً؟
رحم الله شهداء مصر، من "رابعة العدوية" إلى الواحات.
أضف تعليقك