• الصلاة القادمة

    الظهر 11:01

 
news Image
منذ ثانية واحدة

في أحياء القاهرة القديمة ، ترى كل صنوف البشر ، فهذا حمدي بك سليل المجد والكرم وعائلته تضرب بجذورها في عمق التاريخ ، تراه ودودًا مبتسمًا للجميع ، يبدو من أناقته أنها متأصلة فيه ، ورثها كابرًا عن كابرٍ ، أخلاقه وإنسانيته يستحق عليها أعلي المراتب ، وله على كل من حوله أيادٍ بيضاء ، لا يكاد يشعر بحاجة أحدهم إليه إلا ولبي وهرول ليُعين المحتاج ، دونما سؤال ، مُهاب في حيه بشموخه البادي لكل من يراه.

تكاد كل مشاكل الحي العريق الذي يقع فيه قصره الذي ورثه من والده ، تنتهي في باحاته باحتوائه للجميع ، وطعامه يعرفه كل أهل الحي ، فهو سخي كريم معهم وكرمه مطبوع وليس تصنعًا ، فلا هو يرغب في سمعة ولا السمعة الحسنة والشهرة تفارقانه ، ويكاد الناس تقتبس من الخنساء شِعرها إذا أرادوا أن يمدحوه.. وينشدوا من ورائه..

وإن حمدي لكافينا وسيدنا ... وإن حمدي إذا نشتوا لنحار

هكذا يعرفه الناس ، وأبناؤه لم يتخلفوا عن ركب أبيهم ، فهم مثل والدهم في كل حسنٍ وجميل ، يعرفهم كل من في الحي ويكنون لهم نفس ما يكنونه للقامة السامقة في الحي.. حمدي بك... ولكن ما يميزهم عن أقرانهم حظهم الوافر من الأدب ومن التعليم ومن الرقي المتوارث في عائلتهم علي مر العصور ، وهم يعرفون قدر أنفسهم ، ويضعون أصابعهم علي سر تميزهم ، ولا يكادوا يبرحونه ، بل يذكر بعضهم بعضًا به حتى لا يندثر تحت وطأة الأيام التي بدأ التحول فيها يدق أبواب كل شيء.

وهذا عم سلطان ذو الملامح التي ترد بذهنك حينما تريد أن تجسد معني الطيبة والشهامة ، يبيع السمن والعسل في محلٍ أسفل البيت العتيق الذي يملكه ، وزبائنه كل بيوت وبيوتات الحي ، رقيق إلي حد الوداعة ، وطيب القلب ويعرف أرقاء الحال من السكان فيكفيهم مؤنة الشراء ، لا تفوته مناسبة عند أحدهم ، فهو أول المشاركين وتسبق مشاركته عسله وسمنه ، وزوجته عفاف التي لها من اسمها نصيب يليق بطيبة عم سلطان وعفته ، سيدة مضيافة تعرف أصول الكرم وتعرف كل الفضليات من نساء الحي ، الذي يحتسي بعضهم معها قهوتها التي لا يباريها أحد في صنعها ، ويترددن عليها بشكل دوري لا يخطئونه ، وسماح ابنتهما ، لا تقل طيبة ولا وداعة عن أبويها ، وفيما يبدو أن زوجة حمدي بك تضع عينها عليها وتترقب وصول ابنها إلي محطة التأهيل لتختارها أهلًا له ، فهي تستطيع أن تميز بين الغث والسمين من البنات .

وهذا الشيخ محمود إمام المسجد ، ذلك الشيخ الأزهري العالم ، الورع التقي ، الحافظ لكتاب الله ، ندي الصوت ، يأخذ بمجامع القلوب وهو يتلو قرآن الفجر في الصلاة ، التي لا يتخلف عنها إلا من يبيت في محل عمله البعيد عن هذا الحي .

وهو منبع النور ، قدوة في كل ما يفعل ، كثيرًا ما كان هو ماسح الهم من علي قلوب البسطاء ، وباعث الأمل والبشريات في نفوسهم بخطبه التي تصل إلي القلوب ، وتؤثر فيهم وفي معاملاتهم ، وهو الجامع لأبنائهم في ذلكم الكُتاب الملحق بالمسجد والذي يأخذ شكل المدرسة في جديته والمحافظة علي مواعيده ، ليتعلموا القراءة والكتابة ومبادئ الحساب ، ويتعلموا كل القيم والمبادئ التي تجعلهم رجالًا بحق لا ينكسرون لظالم ولا يفرطوا فيما تعلموه وحفظوه ، وكان يعاونه في ذلك ولداه ، مهدي وحازم ، اللذان كانا شعلة المكان وباعثين الحياة فيه ونقلوا إلي الصبيان طواعية من رجاحة عقولهم ما يجعلهم يكبرون قبل أن يكبروا .

وكان الشيخ محمود كل آماله أن يصاهر حمدي بك ، ويزوج ابنته من أحد ولديه ، مهدي أو حازم ، وكان حمدي بك يشعر برغبته في ذلك وكان يتمني تلك المصاهرة ولكن يريد أن يترك لابنته الاختيار وكله ثقة في أن ابنته لن تحتار في اختيارها ؛ فهما من خيرة شباب الحي ، ويتمناهما كل الرجال لبناتهم.

وهذا المعلم صالح الذي يبدد بطيبته وعذوبة كلماته الصورة البشعة التي غرستها الأفلام العربية في عقولنا عن الجزار.

فهو جزار الحي ينتمي إلي الطبقة المتوسطة التي تميل ناحية الثراء الذي يزداد شيئًا فشيء من تجارته الحلال ، يعاونه في عمله ولده عبدالمنعم الذي كان يشبه أباه كثيرًا في ملامحه ، ولكن شتان بينهما في الحلال والحرام والخُلق ، تراه وتري والده فتتذكر ذلكم الفارق الشاسع الذي كان بين نوحٍ وولده ، وكان ذلك ما يكدر صفو المعلم صالح وحزين لما آلت إليه أخلاق ابنه ، ويتردد في صدره ، إنه ليس من أهلك إنه عملٌ غير صالح ، وفشلت كل محاولات الإصلاح ، واستمر الولد في غيه ، فضاق به والده ، ثم سمع لنصيحة الناصحين له بأن يجعل لولده تجارة مستقلة وخاصة به ، فاستجاب لهم ، وأسس له محلًا علي أحدث ما يكون ، وبدأ يساعده إلي أن أصبح ينافسه هو شخصيًا ، وذاع صيته ، واستعان بأحد الصبية من الحي ليعلمه المهنة وليعاونه فيها ، وكان اسمه كمال ، كبرت تجارة عبدالمنعم ، وكبر كمال الذي التصق به لقب "كرشة" وبدأ يظهر في الحي كأحد كباره وهو يسير مع معلمه ويرتدي الثياب الفاخرة التي كان يعجز قبل ذلك أن يسأل فقط عن أسعارها ، وبدأت معاملات عبدالمنعم تنحرف ، ويقلده فيها كمال ، الذي أصبح لقب "كرشة" معه ملازمًا له أكثر من اسمه ، حتى نسي الجميع كمال ولا ينادونه إلا "الواد كرشة" .

وكانت رياح التغيير والتحول قد هبت علي الجميع ، وتغيرت الأحوال ، فلم يعد لحمدي بك كلمة مسموعة وحدث هذا تدريجيًا ، وعم سلطان أصابه ما أصاب الجميع من ذلك التحول الاقتصادي السيئ الذي غرس براثنه في لحم الجميع وقلب موازين البناء الاجتماعي ، وأحدث حراكًا سريعًا بين الطبقات تقدمًا حينًا وتأخرًا أحيانًا كثيرة ، وتغيرت الخريطة الديموجرافية لكل سكان الحي.

وبدأت ديدان الأرض المغمورة ، تطفو علي السطح بعفنها وبما تحمله بين حناياها من فساد وفسق وكراهية ، وعداوة لكل ما هو راقي وكل ما هو عتيق ، تريد أن تقرض بأسنانها كل مقومات الجمال في المجتمع ، وتنزع عن ذوي الفضائل فضائلهم ، بما أوتيت من مال جعلها تُغير جلدها ، وتنسي أن لهذا المجتمع قامات سامقات ، لا ترفض أبدًا ولا تعارض هذا التحول ، وتقبل بوجود المتحولون إلي جوارهم فالميدان فسيح ، ولكن ديدان الأرض تأبى إلا أن تكون هي التي تملأ المشهد ، وتزيح منه كل ذوي الفضل ، حتي لا يظل وجودهم يذكرهم بفسادهم..

أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أُناس يتطهرون.

وبدأت الآثار تتوالي....

وتواري دور الشيخ محمود ، وولداه أصابتهم البطالة بعد انصراف الناس عن التعليم وعن القرآن.

وتدني الحال بعبدالمنعم ، واستدان من الواد كرشة أموالًا كثيرة وغرق في الدين حتي أنه باع محله للواد كرشة التي لعبت الخريطة الديموجرافية معه لعبتها وحولته إلى المعلم كرشة ، الذي تغزو تجارته ومحاله كل شبر في الحي العتيق ، وأصبح هو سيد الحي ، وأصبح كبيره الوحيد ، وأخذ يعيث في الحي فسادًا ، ونهبًا وسلبًا ، فقد أصبح بأبنائه ومناصبهم من علية القوم ، ومن أهل الحل والعقد في المجتمع بأسره وليس في الحي فقط ، وخضع الجميع له متنازلين عن رجولتهم ونخوتهم حتى لا يُحرموا العمل معه وفي تجارته التي ربت وملكه الذي اتسع... وكلما تجسر وتشجع أحدهم وطرق باب حمدي بك أو عم سلطان أو الشيخ محمود ليشكو له مما أصابه منه ، فيقولون إنه ليس زماننا ، فيدور المشتكي بعينيه في وجوهم يريد منهم أن يخبروه في أي زمن هم وهو... فتخرج الإجابة مع إسدال ستارة النهاية مردده.. إنه زمن المعلم كرشة..

أضف تعليقك