ليس صحيحا أنه مصاب بالبارانويا، فجنون العظمة يدفع صاحبه إلى الإحساس بالثقة الزائدة، وإن كان مصدرها الوهم، فهو يعاني من عقدة ينفس عنها، على طريقة حل مشكلة "قصير القامة" على يد الطبيب النفسي (عبد المنعم مدبولي) في فيلم (مطاردة غرامية)، عندما تقرر العلاج بأن يردد أنه ليس "قصير قزعة"!
فصاحبنا لا يدري ويدري أنه لا يدري، وكل ما نشاهده من قيامه بتضخيم ذاته، من أول وصفه لنفسه بأنه طبيب الفلاسفة، هو محاولة للتغلب على عقدته ( وهو الرئيس الوحيد في مصر الذي جلب طبيبا نفسيا مستشارا له ليكون بجانبه)، ولا أنسى عندما كان الهتاف في ميدان التحرير بتواضع المستوى التعليمي لضباط الجيش، يفزعهم، وقد شاهدت عددا منهم يطلبون من المتظاهرين ترديد أي هتاف، إلا هذا الهتاف الذي قالوا إنه يغضب رجال الجيش بشكل كبير. أحد الضباط قال اهتفوا ولو بسقوط حكم العسكر!
في لقائه الأخير، الذي كان فيما يسمى بالعاصمة الإدارية الجديدة، حرص عبد الفتاح السيسي على الظهور بمظهر (فلتة عصره)، و(حكيم زمانه)، فهو وحده من يعلم، فحتى الحاصلين على (الدكتورهات) لا يعرفون شيئا، وهو يعلن عن استعداده لسماع الآخرين بشرط أن يكون المتحدث (فاهم)، وذلك في معرض اتهامه لمن يتكلمون عن العاصمة الإدارية الجديدة بالجهل، وهو سلوك في إدارة الدول غير مسبوق، لأنه يتصرف كـ (حاوي) المفترض ألا يعرف أحد ما يخفيه (جرابه)، ثم خطى خطوة أخرى، عندما وصف من يسألون عن ميزانية الدولة، كمن يحصل من أسرته على (المصروف)، ثم يريد أن يعرف من أين يأتون بالمال، وهو رد يقال في الأسر المنحرفة، حيث لا يجوز للقاصرين الذين لا يدخلون (إيرادا) بالتوصل إلى نوع النشاط الذي يُمارس، وتكسب منه الأسرة دخلها!
وهو أسلوب في الإدارة، لم تعرفه حتى المجتمعات البدائية التي لا تشكل دولة، الذي وإن كان "زعيم القبيلة" هو من بيده عقدة كل شيء، فإنه يضع الأعيان والوجهاء في الصورة، فلا يدير القبيلة، وكل أفرادها كما (الأطرش في الزفة)، فضلا عن أن زعماء القبائل لا يستولون على الدخل القومي للقبيلة!
عبد الفتاح السيسي يطلب من المواطنين أن يشعروا بالاطمئنان الكامل بالقدرة على توفير نفقات إنشاء العاصمة الإدارية الجديدة، دون أن يكون للمواطنين الحق في معرفة من أين جاء بهذه المليارات، وهل هي ديون ستحمل على الأجيال القادمة، أم هي نتاج ثمن بيعه للأراضي ومن الوراق، إلى مثلث ماسبيرو، إلى غيرها لدولة الإمارات؟ فالدخل القومي معروف على سبيل الحصر، وقديما قيل لجحا: عد غنمك. فقال: (واحدة نايمة وواحدة قايمة)، فقد انخفض إيراد قناة السويس، وانخفض الدخل القومي من السياحة والتصدير، ولا يوجد بند في الموازنة العامة للدولة يمكن أن يوفر هذه المليارات، إلا إذا كان قائد الانقلاب العسكري يتاجر في الآثار؟!
في إطار إثبات عبقريته، التي تتفوق على علم حملة (الدكتورهات) قال إن بناء العاصمة الجديدة يقوم على فلسفة، وشرح هذه الفلسفة بعدم الإقدام على البيع فيها إلا بعد أن تصبح مشروعا قائما بالفعل، وهي فلسفة لا تحتاج إلى عبقري أكثر ذكاء من حملة (الدكتورهات)، فتاجر العقارات البسيط الذي لا يفك الخط، يتبنى هذه الفلسفة في أضيق نطاق عندما يشتري قطعة أرض ويقيم عليها عمارة!
الإثم هو ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس، فالعاصمة الإدارية الجديدة، لم توضع لها دراسة جدوى، ولم تعرض على النقاش المجتمعي، وهو يريد من الناس أن يطمئنوا لمجرد أنه موجود، مع أنه ورط البلاد قبل ذلك في (تفريعة) قناة السويس، التي تبين أنها عمل ارتجالي، على النحو الذي ذكر رئيس هيئة قناة السويس مهاب مميش، حيث عرض الفكرة على السيسي في الهاتف فاستحسنها وقال له: نفذ. وقد أغرق السيسي أنصاره في الأوهام وبإعلانه في اليوم الأول أن (القناة الجديدة) استردت ما أنفق عليها، وأعلن "مميش" أن عائدة القناة الجديدة هي مئة مليار جنيه في السنة، فإذا بالأرقام تأتي متواضعة، ليتحقق ما قيل من أنها بلا جدوى اقتصادية، وبعد أن ورط السيسي الجميع أعلن بأن الهدف من إنشاء قناة السويس الجديدة، هو رفع الروح المعنوية للمصريين!
ووعد ببحور السمن والعسل، بمجرد انعقاد المؤتمر الاقتصادي، فانعقد وانفض السامر، دون دخول دولار واحد، عائدا من هذا المؤتمر، الذي بدا أنه مهرجان للضحك على الذقون وإدخال الغش والتدليس على المصريين!
ودون نقاش فوجئ المصريون بالسيسي يزف لهم بشرى التوقيع على اتفاق المبادئ، الذي بمقتضاه حصلت أثيوبيا على الموافقة المصرية على بناء سد النهضة، دون أي التزام بالسماح بقطرة مياه واحدة بالوصول إلى مصر، وتم التحذير من هذه الجريمة، وغضب السيسي وقال إنه لم يضيعنا من قبل ليضيعنا الآن، مع أنه أضاعنا من قبل ومن بعد، والآن فإن الحكومة نفسها تعترف بالكارثة التي تنتظر المصريين عندما يبدأ التخزين خلف سد النهضة!
السيسي وهو يرتكب كل هذه الحماقات، فإنه يريد أن يبدو أنه الأذكى والأعلم، وفي الحقيقة أنه يهرب من أي نقاش، فلا يكون أمامه إلا أن يطلب من الشعب أن يصمت، ولو كان يمتلك حجة لعرضها.
إنه لا يدري، ويدري أنه لا يدري.
أضف تعليقك