• الصلاة القادمة

    الظهر 11:01

 
news Image
منذ ثانية واحدة

(1)في العام 2001، وكنا للتوّ، أنا ومجموعة من المعتقلين، قد خرجنا من مركز تحقيق المسكوبية إلى سجن مجدو؛ وقبل عمليات السور الواقي التي قادها شارون على الضفة الغربية، التقينا برجل في السجن، كنّا نجلس وإياه لتلاوة القرآن كلّ صباح، كما هي العادة في أقسام حركة حماس داخل السجن. قال لنا الأخ إن شارون سيجتاح الضفّة الغربية، وسيحاصر عرفات، وإمّا أن ينفيه، أو أن يغتاله!

ما قاله الرجل؛ تحقق حرفيًّا في عمليات السور الواقي، اجتاح شارون الضفّة، واحتل المناطق المسماة "أ"، وحاصر عرفات، حتى قتله بطريقة غامضة، بدت لي نبوءة الرجل ممكنة التحقق قريبًا، بينما خالفني صديق كان قادمًا معي من المسكوبية، استبعد تمامًا أن يصل السلوك الإسرائيلي إلى هذا الحدّ.

رَجّحتُ حينها إمكانية تحقّق التحليل، استنادًا إلى جملة عناصر، منها طبيعة شارون الشخصية، والتي تجلّت لنا، نحن الفلسطينيين، بشكل كبير في حصار بيروت، تبدو ثنائية عرفات شارون حاضرة في انتفاضة الأقصى؛ التي كانت حدثًا بالغ العنفوان، مسّت على نحو خطير وقاسٍ الأمن الإسرائيلي، ولم يكن ثمّة بدّ من حلّ جراحيّ، يجرؤ عليه شارون. بشكل أساسيّ لزم دراسة الثابت في شخصية شارون، ومن ثمّ توقّع فعله، ودراسة الحدث نفسه ومستوى الخطورة فيه على "إسرائيل".

(2)أثناء استعداد حماس للدخول في الانتخابات التشريعية، توقع بعض من أعرف فوز حماس، وبصرف النظر عن هذا التوقع، فقد رأى أحدهم أن فتح لم تتغير، ولن تقبل بفوز حماس، تناقشنا مرات عديدة في ذلك الوقت، ثم اعتقلنا، والتقينا مرة في السجن بعد فوز حماس بكبرى بلديات الضفة. عزّز ذلك اعتقادنا بأن فوز حماس في الانتخابات التشريعية سيكون فوزًا كبيرًا، لكننا حاولنا توقع سلوك الأطراف الأخرى المعنية: فتح، "إسرائيل"، الإقليم، العالم.

السؤال الذي حاولنا به فتح مغاليق السلوك المحتمل لتلك الأطراف كلّها؛ إن كان ثمّة تحول بنيوي في أيّ منها، أو تحوّل في المصالح، أو تحوّل في ميزان القوّة، قد حصل إلى الدرجة التي تجعلهم، أو تجعل بعضهم، يمرّر فوز حماس هذا. هنا كان لا بدّ من قياس قوّة حماس نفسها أيضًا؛ إلى أي درجة من شأنها –أي قوّة حماس- أن تكون مؤثرًا برتبة أولى في مسار الأحداث القادم.

أجرى ذلك الأخ تلك الحسبة ونحن في سجن عوفر، قبل فوز حماس بالانتخابات التشريعية، وأشركني معه فيها، وقد وضعنا فيها دراسة السلوك التاريخيّ لتلك الأطراف، وبحثنا إن كان ثمة تغير قد طرأ جوهريًّا على طبائعها أو مصالحها، أو على موازين القوى التي استند إليها ذلك السلوك، وإن كانت قوّة حماس كافية كيْ يمرّ فوزها دون مشكلات، وكانت الإجابة سلبية. ما أزال أذكر كلمة ذلك الأخ، وهو بمنزلة أستاذ لي: "لا شيء تغير بعد".

(3)في العام 2008 حينما اقتحم آلاف الفلسطينيين معبر رفح إلى سيناء، كنّا ثلاثة في ندوة سياسية في سجن عوفر، تحمّس أحد الثلاثة في غمرة المشهد المهيب، وتأثّرًا بكلمة مبارك؛ا لتي قال فيها إنه لن يسمح بجوع الفلسطينيين، فقال، أي زميلنا في الندوة "الزمن لن يرجع إلى الوراء، والحصار انتهى للأبد". فقلت له: الحصار لم ينته، وسيكون أسوأ في الأيام القادمة.

لم أكن أنظر من خلف ستار الغيب، وإن كانت الرؤية التحليلية أحيانًا تختلط بشيء من الحدس يعسر بيانه بأدوات لغوية. بيد أن الفكرة الأساسية كانت في أن مصر –الدولة والحكم- لم تتغير، وأن مبارك الذي عرفناه طوال السنوات التي مرّت ظلّ كما هو، وأن موازين قوى جديدة لا تلوح في الأفق، وأن انفجار الفلسطينيين ليس كافيًا بالقدر الذي من شأنه أن يستحيل إلى عامل يغالب فعلاً تلك العوامل، باختصار ينبغي ألا تبالغ في تقدير قوتنا، وألا يأخذنا جلال اللحظات العاطفية المهيبة!

(4)إنّ أيّ أحد من الممكن أن تأخذه اللحظة وتستغرقه، حتى المفكرين الاستراتيجيين وصناع القرار الكبار. لقد قال الجميع، بعد الثورات العربية إن الشعوب لن تسمح بالانقلاب على ثوراتها وتضحياتها، كان الخطأ هنا في المبالغة في تقدير القوّة الجماهيرية وفاعليتها، والغفلة عن طبائعها وتناقضاتها، تمامًا والغفلة عن طبائع دولنا، والمصالح وتوازنات القوّة التي تربط الفاعلين كلهم ببعضهم، من الفاعلين داخل كلّ دولة إلى الإقليم والعالم، كان علينا أن نتساءل مثلاً عن دور وقدرة العامل الإسرائيلي في هذا السياق، وهكذا.

بعد مجيء الملك سلمان إلى الحكم في السعودية، راجت آمال بتغيرات جوهرية في سياسات الحكم السعودي، عمومًا لم يكن ثمة ما تستند إليه تلك الآمال سوى التفكير الرغبوي، وما كان يظهر من خلاف بين الملك الجديد وفريق الملك عبد الله السابق، وبالتالي القوى التي كانت متحالفة مع الملك السابق، كالسيسي وبن زايد. هنا كانت الغفلة تامّة عن طبائع الحكم السعودي، والعوامل المؤثّرة فيه.

إنّ دراسة سلوك وطبائع وخصائص وسمات الفاعلين من أهم أدوات محاولة فهم ما يبدو تحولات في سلوكهم. مثلاً هل يمكن القول إن نظام عبد الفتاح السيسي الذي سعى لإذلال غزّة وتركيعها، وألقى كل ثقله لإفشال حماس -بحكم الجغرافيا- دون أن يظهر أي دور لتوازنات القوى داخل الدولة المصريّة، هل تغيّر فجأة وأصبح نصيرًا للفلسطينيين، واختفت من سياقاته ودوافعه كل العوامل المؤثّرة فيه، كالعامل الإسرائيلي والإماراتي؟

وهل التوازنات بين أجهزة الدولة المصرية كافية إلى الدرجة التي تضع السياسات المصرية في الموضوع الفلسطيني خارج الهوامش المتاحة لها إسرائيليًّا وأمريكيًّا؟

لأنّ الإجابة ستكون لا، فعلينا البحث في دوافع السلوك الجاري، مثل جهود المصالحة الراهنة.

هامش:

إنّ البحث فيما وراء السلوك المصري في موضوع المصالحة، والانفتاح الجاري على حركة حماس، وتعلق ذلك بارتباطات النظام الإقليمية والدولية، لا يعني رفضًا للمصالحة، بل توسيعًا للرؤية الكلية الشاملة، حتى يكون ثمة فرصة أفضل لمناورة الضعفاء داخل ما يجري.

أضف تعليقك