لا ينكرُ أحدٌ حجمَ الإجماعِ الذي حَظِيَ به الأستاذُ الشهيدُ (مُحمد عاكف) حياً وميتاً، ولا تُخْطِئُ عينٌ رؤيةَ التقديرِ والمكانةِ التي حَظِيَ بها عندَ كُلِّ التياراتِ والمُكوناتِ وقبلَهَا الشعوبُ والأفراد.
وسألتُ نفسي: ما السرُ في هذا الإجماع؟ ولماذا عاكفٌ في وقتٍ أصابتْ سهامُ النَّقدِ كلَّ غَادٍ ورَائِحٍ، وكلَّ قائمٍ وقاعد؟!
فوجدتُ الأسبابَ تَتَسَارعُ إلى قلمي أيُها تُكْتَبُ أولاً:
1ـ أزعمُ أن هذا الرجلَ كانت له صِلةٌ خاصةٌ بربه جَمَعَتْ عليه القلوب، وأطْلَقَتْ بالثناءِ عليه الألسنة، وَأجْرَتْ بفضائِلِهِ الأقلام، وتذكرتُ قولَ عروةَ بنِ الزبير –رضي الله عنه–: (مَنْ أقْبَلَ بِقَلْبِهِ على الله، أقبلَ اللهُ بقلوبِ الخلائقِ عليه). وأَحْسَبُ أنَّ هذا الرجلَ أقبلَ بقلبهِ على الله، ولا أُزَكِّي على اللهِ أحداً.
2ـ أن هذا الرجلَ وَصَلَ إلى مَكَانَتِهِ هذه مِنَ المَيْدَانِ وليس من المَكَاتِبِ والمناصب، فهو ابنُ الدعوةِ، أَوْقَفَ لها حياتَه كُلَّهَا، فانطلقَ يَغْرِسُ في كلِّ مَجَالَاتِهَا، ويَلْتَحِمُ في كلِّ الأَقْطَار بشبابِها، ويُعِدُ في كلِّ المَرَاحِل أَشْبَالَهَا، ويتواصل بشتى الطرق مع محبيها، فقد عَرَفَتْهُ مَنَابِرُ الدَّعْوَةِ وسَاحَاتُهَا قبلَ أن تَعْرِفَهُ مَكَاتِبُهَا وتَنْظِيمَاتُهَا، لِذا تَرَاهُ حِينَما تَرَكَ مَنْصِبَهُ التنظيمي لمْ يَخْفُتْ أَثَرُه، ولم تتراجع مكانته، وَلَكِنَّهُ ازْدَادَ بَرِيقَاً، وارْتَفَعَ مَكَانَةً، وارْتَقَى مَقَامَاً.
3ـ جهاده من أجل الأقصى وفلسطين، وأزعم أن هذا الرجل كان من الطائفة الموعودة بالنصر في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، والتي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: "لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ لَعَدُوِّهِمْ قَاهِرِينَ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ إِلَّا مَا أَصَابَهُمْ مِنْ لَأْوَاءَ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَذَلِكَ". قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَأَيْنَ هُمْ؟ قَالَ: "بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ وَأَكْنَافِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ".
فقد عاش الرجل مجاهدا بحق في ميدان القتال، وشرَّفه الله تعالى بقتال الصهاينة في شبابه، ثم ارتبط بالقضية طول حياته حيث انتصر لها بكل الصور والوسائل،الخفي منها والظاهر، وكان واضحا في الإعداد للجهاد حينما أعلن بوضوح عن كامل استعداده لتجنيد وتدريب عشرين ألف شاب لمواجهة الحرب الصهيونيّة على الأمة، وأشهدُ أن الذين صدقوا في نصرة تلك القضية رزقهم الله البركة في أعمارهم وأعمالهم .
4ـ أنَّهُ كان واضحاً، فلمْ يَتَلَوَّنْ في الحقِّ، ولمْ يُهَادِن البَاطِل، ورُبَّمَا أَزْعَجَ وُضُوحُهُ بعضَ مَنْ حَوْلَه، ولكنَّهُ أَصَرَّ عليه، بل وكان جَرِيئاً في طَرْحِهِ دُونَ تَرَدُدٍ، ولعلَّ هذا ما أَلْقَى في قُلوبِ الطُّغَاةِ المَهَابَةَ مِنْه، فَحَرَصُوا على اعْتِقَالِهِ وهو في سنِ التسعينَ مَرِيضَاً، وخَافُوا مِنْهُ بعدَ مَوْتِهِ فأَخْفَوا دَفْنَه، ومَنَعُوا الجماهيرَ مِنْ تَشْييعِه، وحَاصَرُوا بِقُوَّاتِهِمْ قَبْرَهُ!!
4ـ اليقينُ في اللهِ تعالى، وقد حَضَرْتُ له مَشْهَدَاً تعلمتُ مِنْهُ هذا اليقين، حيثُ شاركتُ مَعَهُ في لقاءٍ بمجوعةٍ من الشبابِ من جِنْسِيَّاتٍ مُخْتَلِفَةٍ في إِحْدَى الشُّقَقِ بمدينةِ القاهرة، وكانَ الضغطُ الأَمْنِيُ في هذا الوقتِ شديداً، والمتابعاتُ للأستاذِ مُكَثَّفَة، ورأيتُ في أَوَّلِ اللقاءِ مَعَالِمَ القلقِ والتَّرَقُّبِ تَظْهَرُ على وجُوهِ الجميع، حتى أنَّ بَعْضَهُمْ جلسَ مُتَحَفِّزَاً على أصَابِعِ قَدَمَيْهِ فَزَعَاً وخَوْفَاً، فبدأَ الأستاذُ عاكفٌ كلمتَهُ بقولِ اللهِ تعالى: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} ?آل عمران139?.
ثم عَلَّقَ بقوله (إن تَحَققنا بالإيمانِ فنحنُ الأعلى لأننا مع الله، حتى ولو قبضوا علينا الآن ووضعونا في السجن، نحن الأعلى وإن كانت أيادينا في الأصفاد، وأجسادنا في المعتقلات، نحن الأعلى لأن ثقتنا وسعادتنا في علاقتنا بربنا وليس في مكاننا بين الناس...)، فشعرتُ وكأنَّ السَّكِينَةَ قد نزلتْ على كُلِّ الحُضُورِ فَهَدَأَتْ نُفُوسُهُمْ، واسْتَوَوا في مَجَالِسِهِم، وَأَخَذَتْ ضَحَكَاتُهُمْ أثناءَ الحديثِ تَتَعَالَى أُنْسَاً وطُمَأْنِينَةً وسعادة، فكان درساً بَلِيغَاً تَعَلَّمْتُهُ في هذه الليلةِ المُباركة.
5ـ إِصْرَارُهُ على عدمِ التَّرَشُّحِ لفترةٍ ثانيةٍ لمنصبِ المُرْشِدِ العام، رغمَ إلحاحِ الجميعِ عليه آنَ ذاك، وتوفيقِ اللهِ له لقيادةِ الجماعةِ في هذه الأيامِ إلى نَجَاحَاتٍ مُبْهِرَةٍ، وقفزاتٍ نوعية، نزلَ مِنْ على المِنْبَرِ وكلُّ الناسِ يتمنى أن يُكْمِلَ حَدَيثَهُ، فازدادَ الناسُ حباً له وتقديراً، وقد أعطى بِمَوْقِفِهِ هذا درساً بليغاً للقريب والبعيد، وأصبحَ أَوَّلَ مُرشدٍ سابقٍ على قَيْدِ الحياة، مما جَعَلَهُ قُدْوَةً للقادةِ الصادقين، وأُسْوَةً للرُّوِادِ المُخْلِصِين، وحُجَةً على المُتَمَسِّكِينَ بِحُطَامِ المَقَاعِدِ على جَمَاجِمِ الشهداء، وأنَّاتِ المُصَابِين، وعَذَابَاتِ الأسرى والمعتقلين!!!
6ـ سلامةُ صدرِهِ، ورَحَابَةُ نَفْسِهِ، واتِّسَاعُ أُفُقِه، مما جعلَهُ رغمَ طُولِ حَبْسِهِ لم ينشغلْ كثيراً بِمَنْ ظَلَمُوه، ولم يَقُمْ بِلَعْنِ أو سِبَابِ مَنْ عَذَّبُوه، ولم يُضْمِرْ في قلبِهِ الضَّغِينَةَ على مَنْ آذوه، ولكنه انطلقَ بكاملِ المَحَبَةِ يَلْتَقِي بالمُخَالِفِ والمُوافِقِ بمحبةٍ لا تَخْفَى، وبسماحةٍ لا تُخْطِئُهَا العَين، وانطلقَ يَغْرِسُ الخيرَ في كلِّ مكان، ويُضِيئُ الشُّمُوعَ في كلِّ الأركان، ويفتحُ للدعوةِ آفاقاً.
7ـ إيمانُه بالشباب، وتقديرُهُ لِمَلَكَاتِهِمْ، فلا يَخْفَى على أحدٍ ممن عايشوه عُمْقَ عَلَاقَتِهِ بالشباب، واهتمامَهُ بهم، بدايةً من تاريخِهِ العَرِيقِ بصناعةِ الجيلِ المنشودِ عَبَرَ مِئَاتِ المعسكراتِ والمُنتدياتِ والأنشطةِ والفَعَالِيَّات، وانتهاءً بِتَمْكِينِهِمْ وتقريبِهِمْ ومَحَبَتِهِمْ والتَّبَاسُطِ معهم، بل إنَّه تَحَلَّى نَفْسُهُ بتلك الرُّوحِ الوَثَّابَةِ والانطلاقةِ الجريئةِ التي أشْعَرَتْهُمْ بأنه واحدٌ منهم.
8ـ انشغالُهُ بالعملِ مع الطلابِ الوافدين، فقد كان له في هذا المجالِ صَوَلاتٌ وجَوَلاَت، وكان يَرْعَى هذا المِلَفَّ رِعَايَةً خاصة، حتى وهو مرشدٌ للجماعةِ كان يُصِرُّ أن يُشْرِفَ على هذا القسمِ بنفسه، وأشهدُ أن العملَ في خِدْمَةِ طُلَابِ العلمِ الذين يَفِدُوَن إلى البلادِ العربيةِ رغبةً في الدراساتِ العربيةِ والشرعيةِ لَمِنْ أعظمِ القُرُبَاتِ، ومَنْبَعِ البركاتِ، وأوسعِ صُورِ الاستثمارِ مع الله تعالى.
رَحِمَ اللهُ الاستاذَ (مُحمد عاكف) فقد خَلَّدَ اسْمَهُ في تاريخِ الرُّوَّادِ، فكانت حياتُهُ خيراً عَمِيمَا،ً ووفاتُهُ درساً بليغا.
أضف تعليقك