لم تكن «زوبعة الشذوذ » الآن في القاهرة، هى الأولى من نوعها من حيث التوظيف السياسي لقضية المثليين!
فقبل عشرين سنة أثيرت هذه القضية، في محاولة بائسة لتحويلها إلى قضية رأي عام، عندما ألقت أجهزة الأمن القبض على مجموعة من الشباب، قالت إنهم يمارسون الشذوذ ، ودفعت بهم للمحاكمة الجنائية، وسط اهتمام إعلامي بالغ، لا أعتقد أنه وصل للناس كما كان متوقعاً، وكانت الصحف تنشر تحقيقات النيابة، وما يدور في جلسات المحاكمة، وكثير مما يدور مثير، لكن الجماهير كانت تعلم أن السلطة الحاكمة تغطي بهذه القضية على إخفاقاتها في إدارة البلاد، ولكي تقدم نفسها على أنها تتصدى للشذوذ وتنحاز لمكارم الأخلاق!
لا أناقش هنا مدى صحة الاتهامات التي وجهتها جهات التحقيق للمتهمين، وما أكدته الأحكام الصادرة بإدانة بعضهم، غاية ما في الأمر أنني أود التأكيد على أن أجهزة الأمن لم تلق القبض على المتهمين في حالة تلبس، ولكنها أمسكت بهم من الشوارع، وقالت إنها فعلت هذا لأن هؤلاء الشباب، لا يستخدمون الهواتف الخاصة، أو المنزلية، كوسيلة اتصال بين «أفراد التنظيم»، فهم يستخدمون هواتف الشوارع العامة، لاسيما في منطقة وسط القاهرة، وبشكل يوحي بأن كل شاب يستخدم هذه الهواتف في هذه المنطقة هو «محل شبهة»، ولم تكن الهواتف النقالة قد انتشرت بعد!
لقد طالب دفاع زعيم التنظيم، المحامي «فريد الديب» بتوقيع الكشف الطبي على موكله، وعندما جاءت النتيجة تؤكد براءته، كان الرد بعد صدور تقرير الطب الشرعي لصالحه، أنه يمكن للمتهمين الجلوس في الماء المخلوط بالشبة، فلا يظهر عليهم آثار الممارسات الشاذة!
ومما يُذكر، أن أجهزة الأمن كانت قد ألقت القبض على زعيم تنظيم الشواذ من قبل في قضايا التطرف الديني، وباعتباره منتمياً للجماعات الدينية. وقد أسدل الستار على هذه القضية بالحكم فيها، عندما استنفدت الغرض السياسي منها!
لا أعرف تاريخ التفكير في تنظيم «حفل مشروع ليلى» وما هي الجهة المنظمة له؟.. وما هي الدوافع لاستدعاء هذه الفرقة بالذات من بيروت؟، وقائدها يوصف بأنه «أيقونة المثليين»، وهو يجاهر بمثليته، وقد نشرت صحيفة «الوفد» أنه يضع صورة المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي «أفيخاي أدرعي» على صفحته الخاصة على مواقع التواصل الاجتماعي.. فالأمور ضبابية، ولم تتم إلى الآن الإجابة على هذه الأسئلة على أهميتها، وعدم الإجابة عليها يضع السلطة في دائرة الاتهام!
ما أعرفه أنني نمت في ليلة هذا الحفل، وهناك غضب عارم بعد إعلان خبر وفاة المرشد العام السابق لجماعة الإخوان المسلمين «مهدي عاكف»، وهو غضب امتد إلى رموز من متظاهري 30 يونيو، فالرجل يقترب عمره من التسعين، وهو مريض بالسرطان، ومع هذا أصر الحاكم العسكري على استمرار سجنه، إلى أن وافته المنية دون أن يُصدر قراراً بالعفو الصحي عنه!
وقد استيقظت على اهتمام واسع بخبر إعلان «الشواذ» عن أنفسهم في الحفل، الذي أقيم في «مول» بضاحية التجمع الخامس، ولا أعتقد أن الأمر له علاقة بوفاة عاكف، وما أثارته من غضب، فظني أن الحفل جرى التخطيط له قبل ذلك، وإن كنت أعتقد أيضا أن تنظيمه ليس بعيداً عن «الغرض السياسي». لقد نفضت وزارة الداخلية يدها من الموضوع، فكون الحفل في مكان مغلق، فإن هذا بعيد عن اختصاصها، وهو رد ليس مقنعا، فالوزارة يقلقها أي تجمع شبابي ولو على المقاهي، لذا فقد قامت بإغلاق الكثير من مقاهي منطقة وسط القاهرة، ولا تتوقف عن مداهمة ما تبقى منها، وعندما توحي لنا بأن اختصاصها ليس منعقداً في مكان تنظيم الحفل، فإنه دفع من حقنا ألا نأخذ به!
وقد بدت نقابة الموسيقيين، برئاسة نقيبها «مطرب الأجيال» هاني شاكر، كالأطرش في الزفة، فقد منحت الترخيص القانوني للفرقة، بحسب قانونها، وحصلت على «المعلوم»، دون أن تتابع الحفل، وقد تسترت أيضاً على الجهة المنظمة له، والسؤال هل لا تعرف نقابة الموسيقيين ومطرب جيله والأجيال التالية طبيعة هذه الفرقة، وشذوذها السياسي و؟!
لقد أقيم الحفل يوم الجمعة الماضي، وبعد يومين من الإثارة والجدل قامت وزارة الداخلية بإلقاء القبض على سبعة من المثليين الذين رفعوا «علم المثلية ة»، في خطوة تمد من وقت الإثارة، وأيضاً تأكد أن السلطة هي راعية «الأخلاق الحميدة»، فهل كانت الأجهزة المعنية حقاً لا تعرف طبيعة هذه الفرقة وانحرافها، وهي التي رفضت الأردن السماح لها بإقامة حفل فيها، وهل تعذر أجهزة الدولة ونقابة الموسيقيين بالجهل؟.. أم أن المسؤول لا يعذر بجهله، فالمسؤول الجاهل يفقد شرطاً من شروط تولى منصبه، وهو شرط الإدراك العام والوعي المطلوب لشغل هذه الوظائف، بما فيها وظيفة نقيب الموسيقيين.
اللافت، أن هناك من اندفع باسم الليبرالية للدفاع عن هؤلاء المثليين، بزعم أن ما فعلوه يندرج تحت لافتة «الحقوق الشخصية»، فلدينا في مصر ليبراليون لا يعرفون معنى الليبرالية، فلا تجدهم أبداً في ساحة الدفاع عن الحق في إبداء الرأي السياسي، بل والحق في الحياة التي تسلبها أنظمة الاستبداد، لكنهم يأتون «في الهايفة ويتصدروا»!
إن هؤلاء لم يمارسوا حريتهم الشخصية، إنما جاءوا ليفرضوا «شذوذهم» على المجتمع، وقضية المثلية لم تحسمها المجتمعات الغربية، ومع ذلك فمثقفو الفراغ القاتل، يريدون أن يثبتوا تقدميتهم بتبني كل ما هو شاذ، فالشذوذ هو حرية شخصية، لكن لا ينتمي الحجاب والنقاب واللحية إلى جنس الحرية الشخصية بصلة، وهو تشوه في الإدراك مرجعه إلى الجهل. فالحرية الشخصية محكومة بقيم المجتمعات ومعتقداتها، وفي الغرب يحرمون التعدد في الزواج ولو للمسلمين، انحيازا للمعتقدات المسيحية، ولم يقل أحد أن هذا ينال من جوهر الحرية الشخصية للناس، لكن أزمتنا في هؤلاء المشوهين عقلياً، الذين لا يعرفون الفارق الجوهري بين «الليبرالية» و «المهلبية» !
ومهما يكن، فقد حقق إعلان المثليين عن أنفسهم في «حفل مشروع ليلي» للنظام الانقلابي أمراً مهما، بجانب شغل الناس عن الإخفاق في كل الملفات، لا يتمثل فقط في تقديم السلطة نفسها بأنها راعية مكارم الأخلاق بعملية القبض على السبعة هؤلاء ومد أمد الإثارة بذلك، ولكن في تقديم الأمر للعوام بأن هذه هي الحرية التي يريدها خصوم النظام، فهي حرية الشذوذ ، لاسيما وقد انبرى من يحسبون أنفسهم على الثقافة بالدفاع عن الشاذين جنسياً باعتبار أن هذا يدخل في إطار الحرية الشخصية.
إنها سلطة أدمنت تفجير قنابل الغاز لتستر بدخانها عوراتها التي تبدّت للناظرين.
أضف تعليقك