• الصلاة القادمة

    الظهر 11:01

 
news Image
منذ ثانيتين

هذه المحطات والبصمات التي تركها الشهيد تجيب على السؤال ماذا خسر الإخوان بغياب عاكف؟، فالجماعة هي الآن أحوج ما تكون لروح عاكف للم شملها، وتجميع شبابها، وكسر عزلتها. 

يمثل الشهيد محمد مهدي عاكف حالة خاصة بين مرشدي الإخوان الثمانية) ولكل منهم فضله وعطاؤه)، فقد كان الفقيد أقربهم شبها بمؤسس الجماعة في طباعه وخصاله، وانفتاحه، ولكن أكثر ما ميزه عن غيره هو جرأته في اتخاذ القرارات، والمواقف التي حققت قفزات كبرى في مسيرة الجماعة، ولذا يتساءل الكثيرون عما يمكن أن يكون قد خسره الإخوان بغياب هذا الرجل؟

صحيح أن جماعة الإخوان هي جماعة كبيرة، ولا ترتكز على شخص حتى لو كان مرشدها، وترفض تقديس الأشخاص مهما علت مراتبهم، بل إنها لفظت قيادات كبرى خالفوا منهجها وسياساتها عبر تاريخها الممتد بدءا من وكيلها الأول أحمد السكري، مرورا بقامات كبرى كالباقوري، وانتهاء بحبيب ونوح والهلباوي، ولكن الصحيح أيضا أن لكل قائد بصماته وأدواره المميزة التي يشعر الناس بافتقادها، ويحنون إليها بعد غيابه.

النموذج
كان عاكف أقرب لنموذج عمر بن الخطاب القوي في الحق، الجريء في الفعل، وإذا كان ابن الخطاب هو الذي خرج معلنا هويته، مجاهرا بهجرته، متحديا للمشركين بقولته الشهيرة من أراد أن تثكله أمه فليلقني خلف هذا الوادي، فقد نجح عاكف في إبراز هوية الإخوان، وطلب منهم أن يفصحوا عن هذه الهوية بشكل صريح في كل مكان، فها هم طلاب الإخوان في الجامعة بدلا من طلاب التيار الإسلامي، وهاهم مرشحو الإخوان في الانتخابات البرلمانية في 2005 بدلا من مرشحي التيار الإسلامي أو الصوت الإسلامي، وهاهم يقدمون 156 مرشحا فيفوز منهم 88 مرشحا بنسبة 57% ( من المرشحين) في نتيجة فاقت توقعات السلطة والإخوان معا، وأحدثت فرجة كبيرة في جدار الخوف والديكتاتورية.

ها هو عاكف يخرج بالإخوان من داخل الجدر المكتبية والأسوار الجامعية إلى الشوارع والميادين في مظاهرات مشتركة مع القوى الوطنية كانت ذروة سنام الحركة الاحتجاجية في 2006 مع قضاة الاستقلال ومع الحركات الجديدة مثل كفاية وشقيقاتها، وها هو عاكف يقف بين آلاف المتظاهرين أمام نقابة المحامين خطيبا يزلزل الأرض بكلماته، وتهديداته للنظامين المصري والإسرائيلي.

هذا الحراك الميداني الذي أعطاه عاكف دفعة قوية سبقته تحركات سياسية قادها الرجل بنفسه بعد توليه منصبه إذ نظم زيارات لرؤساء الأحزاب في مقارهم مشجعا ومحفزا إياهم على مواجهة نظام مبارك، ومؤكدا لهم أن الإخوان سيكونون معهم يدا بيد، وكتفا بكتف، وحين دعت الحكومة الأحزاب المصرية لحوار وطني حول الإصلاح السياسي، واستثنت الإخوان من تلك الدعوة بحجة أنهم تنظيم غير قانوني كان رد الإخوان بقيادة عاكف هو طرح مبادرة متكاملة للإصلاح أعلنها عاكف نفسه من فوق منصة نقابة الصحفيين في الثالث من مارس/آذار 2004، وكانت بمثابة تحد قوي للنظام الذي فوجئ بها، ولم يكن بوسعه منعها في حضور عشرات القنوات والصحف.

تأسيس الوسط
وإذا عدنا للوراء قليلا فسنجد أن عاكف كان صاحب فكرة تأسيس حزب الوسط، وقد كان مكلفا من مكتب الإرشاد بهذا الملف منتصف التسعينيات نظرا لأنه كان الأكثر إيمانا من بينهم بضرورة وجود حزب سياسي للإخوان، وقد شكل عاكف لجنة لصياغة مشروع برنامج الحزب من رفيق حبيب وأبو العلا ماضي والدكتور سليم العوا، ولكن المسارعة بتقديم برنامج الحزب للجنة الأحزاب قبل عرضه على مكتب الإرشاد تسببت في الأزمة الشهيرة التي انتهت بخروج مجموعة الوسط من الجماعة، وبالمناسبة فقد كانت القضية التي حوكم فيها عاكف عام 1996 وحكمت عليه المحكمة فيها بالحبس 3 سنوات توصف بقضية الوسط، وكنت أول من أطلق تلك التسمية عبر تغطياتي الصحفية، وقد استدعاني رئيس المحكمة العسكرية في ذلك الوقت اللواء أحمد عبد الله مع عدد من الصحفيين ووجه لي اللوم على هذه التسمية مدعيًا أنه يحاكم تنظيما خارجا على القانون ويقصد الإخوان ولا يحاكم حزبا سياسيا، وأزعم أن ذاك الوصف الذي أطلقته وتبعني فيه غيري من الصحفيين كان سببا في تبرئة المهندس أبو العلا ماضي في القضية ذاتها لأنه كان الرمز الأبرز لمشروع الحزب، ورغم ماحدث من توتر بين الإخوان ومجموعة الوسط إلا أن الأستاذ عاكف ظل على علاقة ودية بهم، حريصا على تبجيلهم واحترامهم.

يوم الطالب العالمي
ورغم أن الجامعات المصرية كانت هي المكان الأنشط لمظاهرات طلاب الإخوان، إلا أن عاكف الذي ارتبط تاريخيا بالعمل الطلابي والشبابي أبى إلا أن يضع بصمته الخاصة، وأن يسجل قفزة جديدة لهذا العمل الطلابي فكانت الدعوة للاحتفال بيوم الطالب العالمي في العام 2009 قبل نهاية ولايته كمرشد، وقد شهدت تلك المناسبة أكبر حشد لطلاب الإخوان وغيرهم من كل أقاليم مصر في جامعة القاهرة، ورغم ضخامة عدد القوى الأمنية التي حاصرت الجامعة إلا أنها لم تقو على منع ذلك الاحتفال الضخم الذي مثل تحديا كبيرا للسلطة والذي دعا لإلغاء قانون الطوارئ والحرس الجامعي وطالب بعودة اللائحة الطلابية القديمة الأكثر استقلالا.

علاقة عاكف بالشباب عموما كانت فريدة أيضا، فهو يلقب بالأب الروحي لهم، ورغم بروز ظاهرة المدونين بين شباب الإخوان، وما طرحوه من انتقادات لاذعة لسياسات الجماعة وبعض قادتها، إلا أن عاكف حرص على بناء جسور تواصل معهم، وفتح لهم مكتبه في أي وقت، وأوصى قادة الإخوان باعتماد سياسة الحوار لا الصدام معهم.

من البصمات الكبرى التي تركها عاكف في مسيرة جماعته وغيرها من الجماعات الإسلامية بل وحتى كل المؤسسات المجتمعية والحزبية هي إصراره على ترك السلطة بينما كانت أمامه فرصة لولاية ثانية وفقا للائحة الجماعة، قاوم عاكف كل الضغوط المعنوية التي تعرض لها لثنيه عن قراره، ونجح في النهاية في أن يحقق رؤيته ليصبح أول مرشد سابق يعمل تحت إمرة مرشد جديد، ويسلمه الراية بنفسه، في مؤتمر صحفي كبير ضاربا بذلك أروع أمثلة الزهد في السلطة في بيئة محلية وإقليمية تقدس السلطة، لكن ترك المسؤولية لم يعن بالنسبة له الخلود للدعة والراحة في بيته، بل كان الرجل حريصا على الحضور إلى مكتبه يوميا في المركز العام بالمقطم، وكان حريصا على إبداء وجهة نظره في القضايا الكبرى مع التزامه في النهاية بما تقرره مؤسسات الجماعة، ولا ننسى في هذا المجال رفضه لترشح الإخوان لرئاسة الدولة انطلاقا من فهم عميق لتحديات المرحلة وتوازنات القوى المحلية والدولية، ولكنه كان أول الملتزمين بالقرار بعد إقراره من مجلس شورى الجماعة.

هذه المحطات والبصمات التي تركها الشهيد تجيب على السؤال ماذا خسر الإخوان بغياب عاكف؟، فالجماعة هي الآن أحوج ما تكون لروح عاكف للم شملها، وتجميع شبابها، وكسر عزلتها، وإجلاء رؤيتها، ولعل هذه النفرة الكبرى في وداعه في أماكن كثيرة تكون حافزا لظهور هذه الروح.

أضف تعليقك