منذ ثانية واحدة
كان خبر وفاة الأستاذ محمد مهدي عاكف مفجعا للملايين من أبناء الحركة الإسلامية في العالم، لما له من دور أسهم به في بنائها وربط بين هيئاتها المختلفة في العالم كله، فضلا عن اهتمامه الملحوظ بالشباب، كما كانت مفجعة أيضا لكثير من السياسيين المصريين.
شخصية الأستاذ عاكف ليست ملكا لأبناء الحركات الإسلامية فقط رغم أنه كان مرشدا لأكبر حركاتها السياسية، لكنها ملك لكل المصريين باختلاف تنوعاتهم، فهو الرجل الذي شارك في حرب فلسطين عام 1948 وهو في شبابه، ميمّما قبلته صوب القضية الأهم عربيا وإسلاميا، وهو الذي وقف مع لبنان كلها وقت عدوان 2006 ولم يخشَ من دعم حزب الله علنا في حربه ضد الصهاينة، ورُفعت أعلام حزب الله بيد أنصار أكبر تنظيم سنّي، ووضعوا صور نصر الله جنبا إلى جنب مع رموز المقاومة السنية في فلسطين وغيرها.
الأستاذ عاكف هو الذي انطلقت الجماعة في عهده ممتزجة بكل ألوان الطيف السياسي، وهو الذي خرجت في عهده من الانكفاء السياسي والاستتار الجزئي للعلنية السياسية والاجتماعية، فصدرت وثيقة الإخوان من نقابة الصحفيين، وتحرك أنصارها في الشوارع متظاهرين ضد الوضع السياسي، وهو المرشد الذي خرج للشارع متظاهرا أثناء العدوان على غزة 2009 كاسرا الصورة الذهنية عن المرشد الذي لا يشتبك بشخصه في الشارع، وأعلن طلاب الجماعة عن انتمائهم السياسي، ودخلت الجماعة البرلمان بأكبر كتلة برلمانية في تاريخها، لتتحول مقراتهم لمشروعات إعلان عن الجماعة، وتكون رسالته للتنظيم قبل الدولة أنكم جماعة علنية لا سريّة، محاولا كسر طابع السرية الجزئية الذي أحاطه رفاق دربه بالجماعة، فنجح في أمور وأخفق في أخرى، كما أنه أول مرشد سابق في تاريخ الجماعة الذي يمتد لتسعة عقود، في درس عملي لترك القيادة دون التشبث بها.
سُجن عاكف لأول مرة لأنه ساهم في عملية تهريب اللواء عبد المنعم عبد الرؤوف عضو مجلس قيادة الثورة، وعبد الرؤوف هو الذي قام بتهريب الفريق عزيز المصري من قبل، وحاصر قصر الملك فاروق وقت الانقلاب العسكري في تموز/يوليو 1952، لكن خلافه مع ناصر وانتمائه للإخوان جعل عبد الناصر يحيله للمعاش، ثم اعتقله عام 1954، فقام شقيقه ومجموعة من الإخوان بتهريبه من السجن أثناء محاكمته وحُكم على عاكف بالإعدام على خلفية القضية ثم خُفف الحكم للمؤبد.
ما يعنينا في هذه القصة أن الأستاذ عاكف انتمى للتنظيم الخاص وسُجن عشرين عاما، لكنه رغم ما يُحدثه السجن من تشوهات نفسية وبدنيّة جراء التعذيب، خرج شعلة من النشاط لينشر فكرته التي آمن بها بممارسات سلمية تبين أن فترة عمله بالتنظيم كان مدركا لحدودها وإلى أين يوجه أدوات هذا التنظيم الذي كان موجودا نظيره في أغلب التنظيمات السياسية في فترة الاحتلال الانجليزي، فخرج عاكف مؤمنا بنشر أفكاره واستمرار نضاله السياسي ضد الاستبداد ولم يجعله السجن على بشاعته يتطرف في أفكاره كغيره، ولم يوهن السجن من عزيمته ولا عزيمة أغلب رفاقه من أبناء الحركة، ولم يخرج حانقا أو غاضبا من المجتمع بل آمن عاكف بحبه لهذا الوطن فعمل له قدر استطاعته، ولا أدلّ على هذا من كسره لحالة الجمود مع القوى السياسية بائتلاف يقوده وزير في عهد عبد الناصر ورئيس وزراء السادات، ويضم الائتلاف جماعة الإخوان المسلمين، في محاولة جادة وواضحة لطيّ صفحات خلاف الماضي.
كانت مشكلة "الأستاذ" أن طبيعته لا تتوافق مع الإعلاميين، فهو يتكلم بأريحية شديدة لا تتناسب مع السياسة في مناخ ملغوم، فانتُزعت منه تصريحات حادة، لكن لا يمكن لمن حمل هذا التاريخ الكبير من العمل الاجتماعي والوطني أن يوصف بأنه غير مكترث بوطنه وإلا ما كان ليعمل له ويقبل التضحية بأهم فترات عمره "الشباب والشيخوخة" ليؤثر الراحة كغيره، فالأستاذ عاكف كان يُعطي نماذج عملية لقيمة الانتماء حتى وإن خانته بعض الألفاظ.
سيرة الأستاذ مهدي عاكف لا يمكننا أن نُسقط منها وعيه لخطورة إقدام الإخوان -والإسلاميين بوجه عام- على الترشّح للرئاسة، وعارض هذا القرار حتى تم تمريره بطرق ملتوية، ولا يمكننا أن نسقط منها ما يُقال عنه أنه "آخر المرشدين الكبار" فهو الذي كان يقدر على ضبط الخلافات الداخلية لو كان قُدِّر له الخروج، غير متأثر باعتبارات خارجية عما يراه الصواب حتى لو خانته تقديراته، وما يُنقل عنه أنه متمسك بانحيازاته التي نتفق أو نختلف معها، لكن يكفيه الخروج عن دائرة الإملاءات والابتزاز الذي قد يُمارس ضده، وقد يستجيب له غيره.
رحل عاكف وهو واقف على قدميه كما عاش واقفا لم ينحنِ ظهره أمام حاكم مستبد، ورحل وهو لا يزال حتى آخر لحظاته يكشف خسة الانقلاب العسكري وممارساته مع معارضيه حتى بعد وفاتهم، ورحل وكان ميراث سجنه كتاب الله الذي كنا نسمعه منه وكأنه يفسّر آياته وهو يقرؤه مصليا.
رحم الله عاكف وغفر له ورفع مقامه، وأخزى من وضع في يديه القيد، وسامح من أضرّوا به في شيبته بحماقتهم.
أضف تعليقك