• الصلاة القادمة

    الفجر 04:23

 
news Image
منذ ثانية واحدة

لم يأت عبد الفتاح السيسي بتصرف خارق لقيم دولة العسكر، عندما أصر في البدء على اعتقال الأستاذ "مهدي عاكف"، رغم شيخوخته، وعندما أصر في الانتهاء على عدم الإفراج عنه رغم إصابته بالسرطان، وقد شاهد العالم كله حالته الصحية المتأخرة أمام المحكمة التي انعقدت لتحاكمه!

فنظرة إلى تاريخ الدولة العسكرية في مصر، سوف تدفع بالناظر إلى عدم الدهشة من تصرف كالذي فعله السيسي، فتاريخ الحكم العسكري يكشف عن أن العسكر لم يتوقف انتقامهم على خصومهم، إنما امتد إلى أن يتخلص بعضهم من بعض، بل ويمارس "الحاكم العسكري"، الانتقام الوضيع، من "الضحية العسكرية"، وبتصرفات الباعث لارتكابها "قلة الأصل"، ولن أعيد نشر ما فعلوه مع قائدهم اللواء محمد نجيب، فهذا أمر بات معروفاً للجميع، وإنما أذهب إلى مذكرات "عبد اللطيف البغدادي"، والتي صدرت في جزئيين عن "المكتب المصري الحديث" بالقاهرة.

"البغدادي"، هو أحد الضباط الأحرار، الذين قاموا بانقلاب يوليو سنة 1952، وقد شغل مناصب سياسية وتنفيذية كثيرة، أهمها انه كان عضوا بمجلس قيادة الثورة، وعضوا بالمجلس الرئاسي الذي هو أعلى سلطة في البلاد، وفي الخلاف حول قضية الديمقراطية، كان منحازاً للأغلبية في مجلس قيادة الثورة التي يمثلها جمال عبد الناصر ضد الرئيس محمد نجيب، وهى الأغلبية التي رفضت عودة الحياة النيابية، وعودة الجيش لثكناته. وظل منحازاً لناصر، إلى أن وجد أنهم ليسوا أكثر من "طراطير" في دولة الحاكم الأوحد، فقد حكم عبد الناصر منفرداً، ولم يكن هناك دور للمجلس الرئاسي. وإذا كان "البغدادي" وزميله "كمال الدين حسين"، قد اقترحا تنظيماً من الفنيين يمكن مجلس الرئاسة من وضع السياسة العامة للدولة، ومتابعة تنفيذها، وتعديلها إذا اقتضى الأمر ذلك، وقد وافق المجلس على هذا التنظيم، إلا أن عبد الناصر لم يصدر القرارات الجمهورية، لتفعيل عمل التنظيم، رغم إثارة الموضوع أكثر من مرة!

بل حدث أن صدرت قرارات من رئيس الجمهورية، لم تعرض على المجلس الرئاسي، أو عرضت عليه ورفضها، بما يمثل مخالفة لقانون انشاء المجلس المنوط به إدارة شؤون الدولة.

وبعد نقاش مع عبد الناصر، وقف "عبد اللطيف البغدادي"، مع زميله "كمال الدين حسين"، بأنه لا أمل في أن يتخلص عبد الناصر من ديكتاتوريه، فتقدم "البغدادي" بكتاب الاستقالة لعبد الناصر بتاريخ 16 مارس سنة 1964، فقيل "يا داهية دقي"، وبدأ الانتقام، من واحد ممن وصفهم عبد الناصر بأن ما بينهم هو "علاقة دم"، وأن الثورة ثورتهم جميعا، ولن يفرط في أحد من هذه المجموعة، وكانت بداية الانتقام بوضع شقيق "البغدادي تحت الحراسة، ورغم قرار سابق بإلغاء الحراسات، وبعد يوم واحد من الإعلان في الصحف عن "إعلان دستوري جديد" تم الإعلان عن أنه سيتضمن تصفية الحراسات.

كان الذين كلفوا بوضع الأختام على مكتب "سعد البغدادي"، هم من جهاز المباحث العامة وذلك يوم 24 مارس، وبعد يوم واحد من الإعلان عن الإعلان الدستوري، وذلك ورغم القرار الخاص بإلغاء قانون الحراسات والعمل على تصفية الموجود منها!

وبعد وضع الأختام طلب "عبد الناصر" من إدارة الحراسات أن تتولى الأمر، لكن المسؤولين فيها كانوا في حيرة من أمرهم، لأن قراراً كان قد صدر بإلغاء تلك الإدارة يوم 21 مارس 1964، وإذا أُبلغ عبد الناصر بهذا الارتباك، فغير في تاريخ فرض الحراسة ليكون بتاريخ 13 مارس وليس بالتاريخ السابق الذي صدر به.

واختيار هذه التاريخ يضرب عصفورين بحجر واحد، الأول، ليكون قرار فرض الحراسة وتكليف الإدارة المذكورة صحيح قانوناً. والثاني، حتى يكون قرار فرض الحراسة سابقاً على قرار الاستقالة والانسحاب من الحياة العامة، وحتى تكون الاستقالة رد فعل على قرار فرض الحراسة، ولسحب أي قيمة سياسية من المستقيل، لأن الاستقالة كتبت بصياغة ظنها عبد الناصر للنشر، بحسب ما ذكره له محمد حسين هيكل بعد عدة سنوات، وكان من الواضح أن حيثيات الاستقالة وما جاء فيها من التلميح إلى انفراد عبد الناصر بالسلطة قد أزعجه، فكان ما نشر في الصفحة الأولى من عدد جريدة "الأهرام" الصادر في 22 مارس، من اعلان دستوري جديد، والتبشير بمجلس أمة يملك سحب الثقة من الحكومة، ويرشح رئيس الجمهورية، وتشكيل حكومة جديدة برئاسة "علي صبري"، وموافقة مجلس الرئاسة على تصفية الحراسات والتعويض عنها وعن التأميم.

وبعد أن عادت المياه إلى مجاريها بين "عبد الناصر" و"عبد اللطيف البغدادي" بعد ست سنوات من القطيعة، وأثناء تناول الأول العشاء في منزل الأخير، سأله عن سبب فرض الحراسة على شقيقه؟، فقال إنه تضايق عندما علم أن "عبد الرؤوف نافع" تحدث عن استقالة "البغدادي" لبعض الصحفيين، وكان "عبد الرؤوف" عضواً منتدباً بمؤسسة دار الهلال الصحفية، تمت اقالته في هذه الأثناء، ولهذا السبب!

وكانت هذه اجابة من اجابتين على سؤال واحد طرحه "عبد اللطيف البغدادي" على عبد الناصر وهو: لماذا فرضت الحراسة على شقيقي؟.. وكان الفاصل الزمني بين السؤالين هو ستة شهور، حيث جاءت إجابته، أنه عندما وجد الناس تتحدث عن استقالته رغب أن يتحدثوا عن شيء آخر، فكان هذا الشيء هو الحراسة التي فرضت على شقيق عضو مجلس قيادة الثورة، وأحد الضباط الأحرار، وعضو مجلس الرئاسة. وربما تستخدم الواقعة من قبل "دراويش الناصري" للتأكيد على نزاهة عبد الناصر واستقامته، فقد ساوي في قرارات فرض الحراسة بين الجميع، فلم يسلم منها شقيق "البغدادي"!

اللافت أن عبد الناصر، ألغى قرار فرض الحراسة في مارس 1965، وجاء في نصه "ترد إليه كل ممتلكاته وأمواله وكأن القرار السابق كأن لم يكن". وإذا عرف السبب بطل العجب!

في هذا العام كان الاستفتاء على موقع رئيس الجمهورية، وإذ أدلى "عبد اللطيف البغدادي" بصوته في إحدى اللجان، فقد اهتم عبد الناصر بهذا الصوت بشكل خاص، وطلب أن يعرف موقف "البغدادي" منه، فهدأت نفسه عندما علم أنه قام بالتصويت بنعم، لأن نتيجة هذه اللجنة لصالح الاستفتاء كانت بنسبة مئة في المئة!

ولم يكن الانتقام قد توقف عند حد فرض الحراسة على شقيق "البغدادي"، فقد أذاه عبد الناصر في معاشه عندما قام بتخفيضه، ونبه على الصحف بعدم ذكر اسمه، حتى في الشكر على التعازي. ويضيف: " ولم ينج بعض أصدقائي من الفصل من عملهم لا لسبب إلا لأنهم استمروا في علاقاتهم معي ولم ينقطعوا عن زيارتي"!

وقد شملت قرارات الانتقام زوج كريمة "عبد اللطيف البغدادي"، المهندس "محمد محمود نصير"، الذي كان يعمل بالخارج في الأعمال الحرة ويقيم في لندن، وكان قد حضر مع زوجته وطفله الصغير إلى القاهرة في إجازة لمدة أسبوع في شهر نوفمبر 1966، وقد فوجئ بمنعه من السفر عندما أراد العودة، وتم وضع اسمه في القائمة السوداء!

إنها أمراض نفسية تنتقل بالوراثة وعبر الجينات إلى الجسد العسكري الحاكم!

أضف تعليقك