في هذا التوقيت بالذات، بينما تتساقط الرموز والقدوات في التيارات كلها من شيوخ وسياسيين ودعاة، لم يكن الدكتور محمد مهدي عاكف مثل أي قيادي سياسي مصري آخر، كان عجوزا طاعنا في السن، لكنه أقرب الشاهدين إلى جيل الشباب، مشاركا لهم في التجربة والأثر بشكل تنهار أمامه نظريات صراع الأجيال أو عقم العواجيز عن إنجاب الرموز والأيقونات.
يميز الشباب جيلهم في الصراع الحالي بأربع صفات تخلعهم عن الجيل السابق -صاحب التجربة..
أولها: أنهم لم يكونوا من أصحاب القرار في المرحلة الكارثية التي أعقبت الثورة والتخبط المواقفي الذي ساد التيارات كلها.
وثانيها: أنهم -أي الشباب- مَن قامت الكيانات السياسية على أيديهم بتضحيات وجهد في الجامعات والشوارع والمنتديات.
وثالثها: أنهم دفعوا فاتورة أخطاء لم يكونوا جزءا من تكوينها. ورابعها: أنهم ضربوا أروع أمثلة الثبات والصمود في معركة لن يقدح فيهم إذا تراجعوا عنها لأنهم لم يختاروها من الأساس.
عاكف، الأستاذ العجوز، غلب الشباب في ميزاتهم الأربع، وأثبت لنفسه عنهم حضورا أقوى وأعجز، وترك للأجيال تجربة تنسف احتكارية النضال وامتيازية التضحية والطهر المواقفي والنقاء الثوري.. بل زاد عليهم جانبا لن يستطيع الشباب -وهو العجوز- اللحاق به.
لم يكن عاكف جزءا من تشكيل القرار السياسي للإخوان قبل الثورة، الرجل انتهى حضوره السياسي بداية 2010، ولم يكن مشاركا في صياغة الأحداث الجارية، ولا جزءا من نسج نتائجها، ولا ملامة عليه في فاتورة الهزيمة، ولا مكان لورقة الشباب الرابحة في وجه أصحاب القرار، المعايرة بالفشل والانهيار.
اعتقل عاكف بعد ساعات من الانقلاب، اعتقال انتقامي من شيخ خارج دائرة الأحداث، لكنهم بذلك مرة أخرى عزلوا تاريخه عن شبهة المشاركة في صياغة ردود الأفعال الإخوانية حيال الأحداث.. انتقل عاكف من سرير بيته إلى سرير السجن، محروما من علاجه، وتمريضه.. متروكا للمرض ينخر في جسده، في انتظار الموت.
عاكف أيضا، من شكّل للجماعة هويتها السياسية الأخيرة، وكانت فترة ولايته هي الأعظم أثرا والأقوى إنجازا والأعلى حضورا، عاكف صاحب إنجاز برلمانية 2005، وصاحب قرار المشاركة في أكبر تحالف سياسي إسلامي ليبرالي في التاريخ المصري في الجمعية الوطنية للتغيير، وصاحب النهضة الطلابية التي واكبت انهيار نظام مبارك.
عاكف هو القيادي الإخواني الأول والوحيد الذي تلقّب بلقب "السابق"، وهو السياسي المصري الأبرز الذي تلقب بها بإرادته دون ثورة أو ضغوط أو تحديات، تاركا نموذجا فريدا للتخلي السلمي عن القيادة والسلطة بين جيل أفرز أمثال محمد حبيب وثروت الخرباوي اللاهثين حول أية سلطة ممكنة.
رحل عاكف تاركا مثالا يحتذى من أمثلة الصبر والصدع بكلمة الحق، وقدوة للأجيال، وقديرا في مواجهة الخصم والتحديات التي لا يكون لها إلا الكبار ليقفوا في وجهها.
ولقد دفع عاكف ثمنا غاليا لقرارات لم يكن جزءا من تشكيلها، هو والشباب إذن في خندق واحد، يغالبهم في مظلوميتهم التي ظنوا احتكارها، فالرجل سجين في الزنازين نفسها، وللأسباب نفسها، وبالمظلومية نفسها أيضا، مكبلا بقيود المرض وضيق النفس وشح العمر ونهاية الطريق.
الأخيرة، أن عاكف غلب الشباب في الثبات والصمود، رغم امتلاكه كافة أمارات الاستسلام المبرر، ورفض -وهو الأحوج- كافة مبادرات العفو الصحي كما نقلت ابنته، واشترط الخروج المشرف الذي يحفظ لتاريخه النهاية المجيدة.
هكذا ساير عاكف جيل الشباب خطوة بخطوة، حتى سبقهم في مضمارهم المقدور، ثم ما لبث أن زاد عليهم أمورا ما كان لهم قدرة لمنافسته فيها.
عاكف حمل السلاح وقاتل الاحتلال والعدو، عاكف اشتغل بالسياسة وترك القيادة طوعا دون دعوة أو ضغوط، عاكف أفرز في عهده أكبر تحالف وطني إسلامي ليبرالي فاعل، عاكف حوكم بالإعدام، عاكف قضى 20 عاما من عمره في السجون السياسية، عاكف مات على سرير سجانه مريضا جاوز التسعين في صراع لم يكن من أصحاب القرار فيه ولا من قيادات مراحله.
مَن من الشباب الآن بمختلف أطيافهم يمكنه اللحاق به؟ إن كنت من أصحاب تصورات العنف فقد حمل السلاح وقاد القتال قبل ميلادك، وإن كنت وطنيا ترفض الخلاف وتنبذ الأيديولوجيات فقد حقق أعظم تحالف وطني حقيقي في تاريخ السياسة المصرية الحديثة، وإن كنت من شباب الإخوان الحانقين على قياديي المرحلة فلم يكن منهم منذ العام 2010، وإذا كنت معجبا بنضالك وتضحياتك، فتاريخ عاكف حتى لحظة موته ينسف لك تصوراتك.
رحل عاكف تاركا مثالا يحتذى من أمثلة الصبر والصدع بكلمة الحق، وقدوة للأجيال، وقديرا في مواجهة الخصم والتحديات التي لا يكون لها إلا الكبار ليقفوا في وجهها، مجددا الأمل لجيلنا في تلمس أيقونات للصمود والصبر والعظمة والرجولة والثبات، قائمة ليست طويلة لكنّ بها الكثير من الشاهدين من أمثال عاكف وأحمد سيف الإسلام وغيرهما من الوطنيين الأمثال العِظام.. فسلام الله على أرواحهم جميعا.
أضف تعليقك