سريعاً، تراجعت سلطة عبد الفتاح السيسي عن مشروع أكشاك الفتاوى الدينية، فيما بقيت أطياف من المعارضة المحترفة، أو المحترقة، تصر على لعبة الأكشاك الثورية، من دون تجديد، أو إدراك أن جوهر المعضلة ليس في ندرة نوافذ بيع ونقاط توزيع العبوات السياسية، وإنما في غياب مشروع فكري وسياسي، جامع للناس.
تؤكد تجربة السنوات الماضية أن الثورة هي في الأساس مشروع ثقافي وأخلاقي، لا يستسلم أبداً لمعايير الربح والخسارة، واعتبارات الوصول السريع، من أي طريق. ومع التسليم بأن هذا المشروع ليس مغلقاً على تيار دون آخر، وليس إقصائياً، أو احتكارياً، إلا أن من المهم الإقرار بأنه ليس تجارياً واستثمارياً وانتهازياً في الوقت ذاته.
والحاصل أن الساحة المصرية تشبعت من أكشاك الخطاب السياسي، المعاد والمكرور، حتى انسدت شهية الجمهور لأي طرح آخر، بالنظر إلى أن معدل استهلاك منتجات المعارضة والثورة، خلال السنوات الأربع الماضية، يقترب من معدلات استهلاك المشروعات الغازيّة، مع ملاحظة أن الأسماء والأشكال متعدّدة، والبضاعة واحدة.
وآفة هذه الطروحات/ المنتجات أنها تعتمد التنافسية، لا التكاملية، بمعنى أن كل بناء ينشأ يهتم أصحابه بإزاحة ما سبق، فيما يتعامل معه السابقون باعتباره خطراً وجودياً يهدّد بقاءهم، من دون محاولات جادة، أكرر جادّة وليست ذراً للرماد في العيون، من السابقين واللاحقين لخلق مساحات للقاء، في ظل نزوع غريزي للإقصاء وادعاء الريادة والجدارة.
وفي ظل هذا التسابق على الانفراد بالتوكيل، سقطت الثورة تحت الأقدام، حتى بات معظم الخطاب السائد هذه الأيام يبتعد عن استخدام مفردة "ثورة"، ويروج بهمة عالية مصطلح المعارضات، ويبذل جهداً كبيراً في التحبيط والتيئيس، ومحاولة إقناع الجماهير بأن كل الطرق مقفلة، وأن كل الوسائل والأدوات المتاحة لا تكفي لحدوث ثورة، يتوفر لها من الأسباب والدوافع ما يكفي لصناعة عشرة أضعاف الغضب الذي انفجر في يناير/ كانون ثاني 2011.
وفي هذا، يتم الإلحاح على أن الأمل الوحيد لفتح ثغرة في الجدار، وليس هدمه، هو الرضوخ لرغبة النظام الانقلابي الحاكم في الذهاب إلى مباراةٍ انتخابية، استعراضية، ينفرد الطرف الأقوى فيها باختيار الملعب والحكم والجمهور والمعلق. وقبل ذلك كله، يختار المنافس، أو بالأحرى يصنعه بيده، ثم يطلبون منك، في النهاية، التشجيع بحماس لمباراةٍ تجري على هذا النحو، ويحاولون إقناعك بأن المنافسة ممكنة، تحت هذه الشروط والملابسات.
ينطلق بارونات الحد الأدنى، من الباحثين عن"الكفاف" في المعارضة والثورة من أن التمسّك بالثوابت، والتشبث بمبدئية القضية، نوع من التحجر الدوغماطيقي والجمود الفكري، يمنح السلطة مسببات أكثر للاستبداد والطغيان، يدفع ثمنهما المعتقلون والمساجين. وبالتالي، لابد من شيء من التنازلات والمراجعات والتراجعات من أجل"أسيادنا في الزنازين".
غير أن واقع الحال يقول إن هذه التكتيكات والمواءمات لم تحقق نتائج تذكر، بل أنه كلما شم النظام روائح مراجعة أو تراجع تأتي من الخارج، يمعن في العصف بالداخل، ويمكنك في ذلك العودة إلى إحصاءات حالات الإخفاء القسري والقتل المباشر وأحكام الإعدام في الفترات التي يعلو خلالها حديث التنازلات والمصالحات الوطنية.
وواقع الحال يقول إن الحالة الثورية في مرحلة هزال وشحوب في مصر، وهذا راجعٌ بالأساس إلى أنه لا توجد قيادة ثورية، جماعية أو فردية، تستطيع لملمة هذا التبعثر، وإنهاء ذلك التشظّي، بامتلاكها المشروع الفكري والأخلاقي، الجامع، وليس المنافس أو البديل.
وإذا كان ذلك غير متوفر بين الحالين، فإنه يمكن تلمسّه عند الذين رحلوا عنا، لكنهم تركوا لنا المبدأ والمنهج، وأكرّر هنا: على من يريد التأسيس للمشروع الوطني الجامع أن يستلهم روح أحمد سيف الإسلام الذي شخّص، في جملٍ شديدة البساطة، أصل الداء، وحدّد معالم طريق الانعتاق والتحرّر من مصيرٍ مخيفٍ، تنزلق إليه مصر بالسرعة القصوى، مع استمرار جماعة الحكم الدموية الفاشلة في العبث بمستقبل البلاد.
تذكّروا مقولة أحمد سيف الإسلام الخالدة عقب انقلاب 2013 "لن يكون لمصر رئيس مدني آخر، إن تم إسقاط الرئيس مرسي بذلك الشكل سيكون أول وآخر رئيس مدني، لأن السير في هذا الطريق يكرّس قاعدة أن أي رئيسٍ لا يرضي هوى الجنرالات ستتم إطاحته".
أضف تعليقك