يعرف عبد الفتاح السيسي جيداً أنه لا يوجد خطر خارجي على مصر، ويدرك يقيناً أن أحداً لا يتربص بها، لكنه يفهم جيداً أنه لن يكون مستقراً في حكمه لو كفر المصريون بهلاوس المؤامرة الكونية، وتمردوا على تعاويذ الفزع وتعاليم الوطنية الملوثة.
لا يعاني السيسي من فوبيا تدخل خارجي لإسقاط الدولة، لكنه يعاني من كل أمراض الكراهية لثورة يناير، هي بالنسبة له الفوبيا والرهاب والهذيان، إذ يعتبرها العدو والخطر الوحيد، الذي يشحن الناس بالخوف منه والكراهية والعداء له.
لم تكن هذه هي المرة الأولى التي يربط فيها السيسي بين سقوط الدولة وبين ثورة يناير، فالثابت أن مشروعه كله قائم على اقتلاع ثورة يناير من جذورها، حتى وإن تملقها واستعملها، إلى حين، وقد عبر عن كراهيته العميقة وغله تجاهها في أكثر من مناسبة، منذ أحكم قبضته على السلطة.
لكنه في 2017 يبدو أكثر وضوحاً في التعبير عن مخزون حقده عليها، ورعبه منها، إذ استبق ذكرى الخامس والعشرين من يناير بتصريحات يمعن بها في تحريض الشعب على الثورة، باعتبارها مصدر الشرور ومنبع الأخطار، فقال نصاً: "في جهود اتعملت للإيقاع بين الشرطة والجيش في 2011.. وبين الشرطة والشعب في 2011، وبين الجيش والشعب في 2011". "
الثابت أن مشروع السيسي كله قائم على اقتلاع ثورة يناير من جذورها، حتى وإن تملقها واستعملها
"
وبالأمس يطور السيسي من شحن الجماهير ضد الثورة، حين يذكرها في سياق واحد مع فوبيا إسقاط مصر، غير أنه ينتقل من توصيفها مؤامرة للوقيعة بين الجيش والشرطة والشعب، إلى اعتبارها محاولة لإشعال حرب الشعب ضد الشعب، وصناعة احتراب مجتمعي، هو وحده، بانقلابه، الذي أفشله، وعلى ذلك فوجوده بالحكم يعني وجود الدولة، وذهابه عن السلطة يعني ضياع الوطن وإسقاطه.
هذه" الينايروفوبيا" تجعلنا نطمئن على أن ثورة المصريين لم تمت، ولا تزال مخيفة ومزعجة لمن يناصبونها العداء، فأن تكون كراهية السيسي مستمرة، فهذا يعني أن الثورة مستمرة، وقادرة على لملمة جراحها والنهوض من تعثرها وانكفائها، وأنها تبقى حيةً، قضيةً وحلماً وهماً، في وجدان أصحابها، كما القدس والأقصى داخل الوجدان الفلسطيني والعربي، تخفت أحياناً في دوائر الاهتمام العربي، حتى نتخيل أنها تراجعت ولم تعد قضية العرب الأولى، حتى يأتي حدث يؤجج الحلم في القلوب والغضب في الصدور، فتهتز الأرض تحت أقدام الغزاة والطغاة.
وأكرر أن ما بين الاحتلال والانقلاب ملامح مشتركة كثيرة، ومرتكزات وأسس أكثر، فكلاهما يكره حراك الجماهير، بوصفه طريقاً للتحرير عند الاحتلال، وسبيلاً للتغيير عند الطغيان والاستبداد، لذا من الطبيعي أن تكره هذه السلطة المقاومة، كل مقاومة، تكره كل من يقاوم، سواء في غزة، أو في طرة و"أبو زعبل" أو أي معتقل آخر، وتطلق عليه فرق "القناصة" و"النهاشة" لتشرب من دمه، رافعة شعار: لا وقت للإنسانية وحقوق الإنسان، والحريات، ولا رحمة مع هؤلاء "الأعداء" الفلسطينيين الذين يقاومون الاحتلال، والثوار الذين يقاومون الانقلاب.
لا تختلف تفاصيل مشروع الاستيطان وتهويد المقدسات في فلسطين، وعمليات "أسرلة" التاريخ والجغرافيا في الأراضي المحتلة، عن سياسات الإبعاد والإقصاء، والمحو التام لعلامات ثورة 25 يناير المصرية، التي تقوم بها دولة الثلاثين من يونيو/ حزيران في مصر.
في وسط هيستيريا الخوف من يناير يتم استدعاء اسم أحد كارهيها الاستراتيجيين مرة أخرى، جنرال الإمارات الآخر أحمد شفيق، منافساً للسيسي في العرض القادم من مسرحية الانتخابات الرئاسية، والواقع أن لا تناقض يذكر بين اثنين ينتميان للدولة العسكرية، وينتميان على نحو أعمق للمشيئة الإماراتية المتحكمة في السلطة المصرية، ويؤمنان أن هذا الشعب قد خلق ليُحكم "بضم ياء المضارع المبني للمجهول"، وليس ليَحكم، بفتح الياء، ولا يتصور أحدهما، أو يتحمل، أن يرى وجهاً مدنياً يأتي من هذا الشعب، ليعتلي حكم البلاد.
وعلى ذلك، فإن افتراض تناقض جوهري بين الجنرالين هو في أحد وجوهه استمرار للعبة الخداع الذاتي، وفي وجه آخر نوع من أنواع الاستجارة من الرمضاء بالنار، والمعنى الوحيد لطرح اسمه مجدداً هو الإمعان في محاولة قهر وإذلال جمهور ثورة يناير، من خلال غلق الدائرة على اثنين من خصومها الألداء، وادعاء حالة تنافس وهمي بينهما.
دامت لنا يناير نسمة تخفف عنا هجير الاستبداد، ودامت فوبيا الطغاة منها.
أضف تعليقك