في الواقع أن الحديث عن الجيش المصري حديث ذو شجون، ذلك أن الجيش كمؤسسة في الدولة من المؤسسات التي لا يمكن الاستغناء عنها والتأكيد على أدوارها، إلا أننا في الآونة الأخيرة فرقنا بين المؤسسة العسكرية بما تشكله من شرف للعسكرية المصرية وبين العسكر وقادتهم حينما يحاولون التحكم والحكم في مجالات عدة أهمها السياسة والاقتصاد، ذلك أن هؤلاء يقومون على توريط الجيش في مناطق ليست له وفي مساحات لا يجيدها، وفي أدوار تنتقص من مهنيته وقدراته وكفاءته.
ومن المهم أن نؤكد أن شرف العسكرية المصرية الذي مثله عبدالمنعم رياض وسعد الدين الشاذلي والجمسي وغيرهم كثير، إنما يعبر عن فهم دقيق لدور الجيش من ناحية ومقتضيات المهنية العسكرية من ناحية أخرى، ومن المهم أن نتذكر أنه حينما تتلاعب القيادات بالجيش وتورطه في مناطق وساحات ليست له، وينخرط الجيش في أتون الصراع السياسي بين قوى مختلفة ويصير الجيش بفعل قادته أحد هذه القوى، فإنه في واقع الأمر يكون مؤهلا لهزائم حتى من دون معارك حقيقية يخوضها، ذلك أن هزيمة يونيو 1967م كانت تمثل بحق انشغال الجيش عن المهام العسكرية المنوطة به بصراع سلطة أدى في النهاية إلى هزيمة عسكرية كبرى وفضيحة طالت الجيوش العربية جميعا بما أسمي بحرب الست ساعات.
وتبدو هذه المسألة أشد خطورة في وضع الجيش أمام هزيمة سياسية كبرى خاصة بتوقيع معاهدات كامب ديفيد والتي حولت بشكل أو بآخر عقيدة الجيش، خاصة فيما يتعلق بتعيين العدو وعمليات الاستعداد لمواجهته حتى أن تعبيرا مجانيا قد صدر من قيادة مصر آنذاك المتمثلة في السادات "من أن حرب أكتوبر آخر الحروب"، بينما قام الكيان الصهيوني بتعبئة كبرى لحروب مستمرة اتخذت أشكالا أخرى غير الصدام العسكري واستطاعت من خلال ما تشنه من حروب نفسية أن تؤكد أمرا خطيرا، لماذا مستحيلات الكيان الصهيوني أصبحت ممكنة، ولماذا ممكنات العرب أصبحت مستحيلة؟!، ما هذا إن لم يكن ذلك تعبيرا عن خيبة الجيوش النظامية في مواجهة الكيان الصهيوني، وبدا الكلام عن السلام كخيار استراتيجي وحيد، كان ذلك دلالة على حالة من ضعف الإرادة وبدت سياسات التطبيع من الكيان الصهيوني تلوح في الأفق، واستمرت إسرائيل في عربدتها كيفما تشاء وظللنا نواجه هذه العربدة بمقولة خائبة "السلام خيار استراتيجي".
كانت الطامة الكبرى أن يتحول الجيش تحت عنوان مشاركته في التنمية إلى مؤسسة تهتم بالشأن الاقتصادي وتترجم إلى حضور سياسي وسلطوي، وهنا رأينا الجيش تزيد مساحات تغلغله وتغوله في ساحات ليست له، متغافلا عن دوره في حماية الحدود والوجود، وبرز مفهوم العسكر وجمهورية الضباط على ما صكه يزيد صايغ في كتاباته المتتابعة حول تشريح التغير في البنية والدور والوظيفة، كان ذلك إيذانا بتحرك العسكر وقادتهم إلى مساحات للسياسة تذكرنا بصراعات السلطة إبان عامر/ ناصر، ومساحات أخرى على ساحات الاقتصاد حتى أنه تدخل في مجالات لا يجوز التدخل فيها، صارت محل تندر وعنوانا على مهازل لمجالات اقتحمها قادة العسكر تتعلق بأشياء خطيرة، حتى لبن الأطفال كان من اهتمام العسكر، لا نريد أن نعدد المجالات التي تدخل فيها الجيش اقتصاديا لأن ما ينشر في هذا المقام ينتهك في حقيقة الأمر صورة الجيش والمؤسسة العسكرية كما ينبغي لها أن تكون.
وبدا قادة العسكر يهتمون كذلك في إطار أحقية ادعوها بضم أراض، ومن ذلك استطلاع رأيهم حول أراض في مصر إن كانت تدخل في حياض الأمن القومي المصري، إلى أن تحول ذلك أن الأصل في هذه الأراضي أن تكون ملكا للعسكر يتصرفون فيها ما شاءوا ويتخيرون منها ما أرادوا، بل ويبيعون منها ما رغبوا، بدا هذا الملف ملفا خطيرا يعبر عنه جملة صغيرة كانت تٌكتب بعد تسييج هذه الأراضي "ممنوع الاقتراب أو التصوير"، "منطقة عسكرية"، شهدنا بعد فترات أن تلك المناطق صار يكتب عليها "أرض ملك للقوات المسلحة"، وبدا ذلك مريبا وخطيرا، وصار هذا الملف يمثل أكبر حركة فساد وإفساد عبرت عن اهتمام مرضِيّ بهذا الشأن لا يعرف له حدود ولا ضوابط أو قيود.
ثم أتى الانقلاب ليقوم بفعلته الكبرى في تشويه جيش مصر ودوره الذي يجب أن يتجه إلى العدو بسلاحه الذي يشترى من قوت المصريين وعرقهم من ضرائبهم وأموالهم، فقد صار هذا السلاح -وللأسف- يتجه إلى صدور بني الوطن، فنزل الجيش في شوارع مصر يروع ويفزع، يلوح المنقلب في خطابه قائلا أنه لن يسمح مرة أخرى لما حدث في الخامس والعشرين من يناير، وأن الخطط قد وضعت ل"فرد" جيش مصر في كافة أنحائها في ست ساعات، هكذا تحول الجيش من مجال حماية الناس إلى استهدافهم ولعل رابعة وأخواتها، سابقتها ولاحقتها، لأكبر دليل على ذلك المشهد المريب والرهيب.
وسمعنا من قادة العسكر كلاما لا يصدق فهذا ينوه إلى ثروة الجيش ـ إن صح ذلك التعبير ـ بأنها "عرقنا" سنقاتل ونقتل دونه ونقتل من يقترب منه، وها هو آخر ينوه أننا (أي الجيش) من نصرف على الدولة وعلى الناس؛ هكذا بل أن المنقلب يتحدث ـ ويتندر الشباب على قوله "شعب مصر الشقيق"، ويقارن بين الجيش والشعب في موضع آخر وكأنهما كيانيين منفصلين بقوله : أنتوا متعرفوش الجيش"، ما بالهم يتحدثون على أن العسكر دولة في الدولة، وعند البعض ممن يبتغي التدقيق دولة فوق الدولة، ولو راجعنا خطابات قادة العسكر وتوقفنا عند كلامهم لوجدنا العجب العجاب.
من الذي صنع هذه الصورة ومن الذي ورّط هذا الجيش؟!، إنهم قادة العسكر الذين دخلوا حلبة صراع سلطة، ومجال تنافس اقتصادي ودفعوا بعضا من قوات الجيش في قتل بني الشعب والوطن، ونزلوا في الشوارع ووجهوا السلاح إلى حيث يجب ألا يتجه، وغاب السلاح حيث يجب أني يكون ويتجه، فتغيرت العقيدة القتالية وغابت المهنية العسكرية، ولابد أن نتساءل هنا؛ من الذي يٌسأل عن هؤلاء الذين يٌقتلون بلا حساب من جيش مصر، ثم بعد ذلك ينتقمون بلا حساب من أهل سيناء بصورة خاصة وأهل مصر بصورة عامة، ويردون على الحوادث الإرهابية التي تتعرض لها قوات الجيش بتصفية لأبناء من أهل الوطن في ربوع مصر جميعا، إنهم "تجار دماء".
يا هؤلاء ملعونون أنتم حينما تصنعون تلك الصورة البائسة لجيش مصر ثم تتحدثون بعد ذلك عن وطنية زائفة وأنتم لا تبحثون إلا عن مد سلطانكم إلى مساحات في السياسة ليست لكم، وساحات في الاقتصاد لم تكن أبدا ملككم، ملعونون.. ملعونون من يحاولون أن ينقضوا جيش مصر ويشوهوا صورته، من قادة عسكر لا يتقون الله في وطنهم ولا يحسنون إلا أن يمدوا مساحات طغيانهم واستعراض قوتهم تجاه شعوبهم لا عدوهم.. نعم.. ملعونون أنتم.
أضف تعليقك