منذ ثانية واحدة
اتخذت الثورة المضادة ظهيرا دينيا لها، ساهم في تمكين أساليبها وسياساتها، يطفو ذلك على السطح، حينما يستدعى العلماء ليتحدثوا في أمور شتى، لإسناد الحكام وأصحاب السلطة، هؤلاء بما يمثلون من أنظمة حكم تحاول أن تشيطن خصومها، أو ما تدّعي أنه خصمها بكل شكل ومن كل طريق، بصرف النظر عما يؤديه ذلك من خطرٍ عظيم، ومردود خطير على الأمة بأسرها، بل ويحاول هؤلاء استغلال تهمة الإرهاب المعمّاة، لوصف أي خصمٍ لا يروق لهم، أو يحتمل أن يهدّد ملكهم وسلطانهم.
يذكّرني ذلك بتلك المقولة الذهبية عن خيار العلماء بين طريقين ودائرتين، إما "أن يكونوا في دائرة سلطان العلماء أو في دائرة علماء السلطان"، مفارقة مهمة وخطيرة، تجعل من هذا الدور من الأهمية، بحيث لا يمكننا بأي حال أن نهمل آثاره السلبية والإيجابية. يذكّر ذلك بسلطان العلماء، الإمام العز بن عبدالسلام، الذي قام بما من شأنه تأكيد وظيفة العالم، حينما يرتبط بالأمة قضايا وهموماً وتحدياتٍ، ويؤسس موقفا كفاحيا يمكّن لمعنى المقاومة في الأمة والعزة في مكانها ومكانتها، سلطان العلماء يجرؤ على "بيع السلطة في السوق"، فقد كتب أمير البيان، مصطفى صادق الرافعي، مقالته المهمة "أمراء للبيع"، لتؤكد هذا المعنى الذي
يكون فيه العالم عينه ومحور اهتمامه منصبا على الأمة لا السلطة، والمجتمع وعموم الناس لا تحصيل جاه أو منصب.
ماذا عن الخيار الثاني من علماء السلاطين الذين يقومون بالتبرير والتمرير والتغرير والتزوير، يحاولون إسناد كل ما يتعلق بظلم الظالمين، وإهدار الحقوق للمواطنين، والحديث بكل نقيصةٍ
"أين هؤلاء من سلطان العلماء الذي باع السلطة في السوق، وهم يبيعون أنفسهم ودينهم في كل سوق؟"
عن خصومهم، على الرغم من أنهم جزء من مجتمعهم، ولكنهم قد يشكلون، مع غيرهم، ممن يمثلون حال الممانعة وموقف المقاومة، خمائر مقاومة وعزة وكرامة، هؤلاء يشكلون ظهيرا دينيا، بمواقفهم وبخطابهم الملعون، يمكنون لظلم سلطانهم، حتى لو قتل بلا حق وطارد بلا جريرة واعتقل من دون حساب.
جوقة الظلم من علماء السلاطين ملعونون بأفعالهم وبياناتهم، وفي بعض فتاواهم التي يريدون منها أن يشكلوا غطاء زائفا لأفعال السلطان الظالم بلا أدنى حرج. لديهم مشيئة السلطان، هي الناموس والقانون، وأن ما يفعله هو الرشد والرشاد، إذا تكلموا نافقوا، وإذا أطلقوا بياناتهم زيّفوا وزوّروا، ملعونون علماء السلاطين، حينما يمتشق كل منهم حسام الكلام وسيوف الظلم وسياط الجور والطغيان، يزيّنون فعله مع يقين قبحه، يستغلون مكانتهم، فيمرّرون ظلم حاكمهم يتسترون على مفاسده وجوره.
ما بال هؤلاء يبرّرون حصار دولة صغيرة برا وبحرا وجوا، بقصد وضع الناس فيها في حال من الضيق والتضييق، وكأن هؤلاء يمارسون حال تجويعهم، كل ذلك في شهر رمضان، دبّر بليل، فهذا يصف فعل الحصار بالحكمة ونفع الأمة، يدفعون إلى تصعيدٍ، بل اتخذ بعضهم مزالق التحريض، وأتى علماء السلاطين ليضعوا أختامهم المزوّرة، مدّعين أنهم يوقعون عن رب العالمين، ولكنهم "قطاع طريق" على ما يقول ابن الجوزي، و"لصوص متغلبة" على ما يقول الزمخشري.
ما لهؤلاء يجمعون فتاواهم لشيطنة فصيلٍ من الأمة، في محاولة لرميهم بكل نقيصةٍ، لا لشيء سوى أن أهل السلطان لا يعجبهم الإخوان المسلمين، فاصطفوا جميعا اصطفاف الباطل، في هيئة كبار علماء وما هم بكبار، أقوالهم وأفعالهم أفعال صغار، يسوّغون للظالم ظلمه، ولمقالته القبيحة فيزيّنوها وخطابه التحريضي والاتهامي، فيزيدون ويزايدون عليه، وأكثر من ذلك يقولون بهتانا وزورا إن هذا من الدين. يقولون ذلك وكأنه اكتشاف ويروّجون ذلك، من ناحيتهم، بفساد العقيدة على حد قولهم، ويتلقف حكامهم ذلك، واصمين إياهم بالإرهاب.
ويقوم وزير خارجية باتهام تلك الدولة بمساعدة حركة حماس، وما أدراك ما "حماس"؟، مطالبا إياها بعدم مساعدتها شرطاً لأن تعود العلاقات، وينفك الحصار الظالم الطائش. يقول ذلك، ولا يعقب عليه عالم من العلماء، فقد أصابهم الخرس، وصمتوا صمت القبور. يا علماء السلطان أفتونا في أمر مقاومة غاصب صهيوني احتل أرضاً واغتصب حقاً، سيصمتون كما صمت حكامهم وتابعوهم بالتواطؤ بالصمت على جريمة همجيةٍ كبرى باقتحام مستوطنين صهاينة للمسجد الأقصى، والاعتداء على المرابطات من النساء والمرابطين من الشيوخ.
ولا ننسى هؤلاء الذين كانوا يتلمسون حضور الشيخ يوسف القرضاوي إلى بلادهم، ويغدقون عليه بالجوائز، ويتسولون الوقوف بين يديه دقائق معدودة، إذ يكتشفون الآن أنه إرهابي خطير! وضعوه على قائمة الإرهاب، وحاولوا أن يطعنوا في علمه وفضله، على الرغم من سابق توسلهم وتسولهم. وأتت جوقة علماء السلاطين لتسير في مسيرة النفاق، وتتحدث بما يطلبه السلطان، يهينون علم الشيخ وتخصصه، وكانوا من قبل يهرولون لمصافحته، يتقولون عليه، وإن كان زورا وبهتانا.
وإذ نتذكّر ونعود إلى ذاكرة الانقلاب المشؤوم الذي مولته نظم حكم إقليمية، ترى في الثورات
"ما بال هؤلاء يبرّرون حصار دولة صغيرة برا وبحرا وجوا، بقصد وضع الناس فيها في حال من الضيق والتضييق؟"
خطرا عليها، صاحب ذلك الانقلاب أسوأ خطاب، وبدعاوى تتعلق بتجديد الخطاب الديني، وما هو بتجديد، إنما عملية تبديد كبرى، يقوم بها هؤلاء في صناعة الظلم الثقيلة من علماء السلاطين لمصلحة أهل السلطة والصولجان. انظر ماذا كان يقول المفتي السابق، ويوزع اتهامات التحريض، ويطل علينا صارخا بفائض كلامه بأوصاف قبيحة، وبكلماتٍ تحرّض على القتل و"الضرب في المليان". وعلى هذ الذي ادّعى أن قائد الانقلاب ووزير داخليته رسولان ابتعثا من الله، كموسى وهارون، هل رأيتم أسوأ من علماء السلاطين، حينما ينحدرون بالقول والفعل في النفاق وتبرير الظلم، ملعونون هم علماء السلاطين.
وهذا مفتٍ بائس، وضعه القدر، وجعل من مهماته أن تُحال إليه أوراق بعض المعتقلين في أحكام الإعدام، فإذا به لا يتورع عن إقرار الأحكام الظالمة الجائرة المحالة إليه من قضاء مدني، ومن قضاةٍ مخصوصين يفرطون في الحكم بالاعدام، ومن قضاءٍ عسكريٍّ مستخف، يروّع الناس بأحكامه، ويحكم إعداما بالشبه، تأتي أوراق القضايا إلى مفتي السلطان، فيصدق ويوقع، يوقع على إهدار دم وإزهاق روحٍ، لا يتبصّر كم وافق على قتل، وكم أقرّ من أحكام بإعدام أبرياء، يقوم بالتصدق على أحكام إعدامٍ، وكأنها أمر روتيني لا يتعلق بحرمة نفس وإزهاق روح، ملعونون علماء السلطان.
وهؤلاء إعلاميون شيوخ، يحاولون من خلال خطابهم تزييف كل ما يتعلق بوعي الناس في هذا المقام، يتحدثون ليل نهار عن دم البراغيث الطاهر، ولا يتحدّثون عن دماء الإنسان التي تهدر في كل مكان، في سورية وفي فلسطين، في مصر وفي ليبيا وفي اليمن، ثم يتحدثون بكل بجاحة "الإنسانية قبل التدين"، عن أي إنسانيةٍ يتحدثون، وهم يزيّفون كل أمر، ويزوّرون للسلطان كل فعل وظلم، كل قتل وسجن، ويهدرون الدماء بكلام مستخف هنا وهناك، ثم يتحدثون عن الإنسانية، إنها جوقة علماء السلاطين، ملعونون علماء السلاطين.
هانوا وخابوا، أين هؤلاء من سلطان العلماء الذي باع السلطة في السوق، وهم يبيعون أنفسهم ودينهم في كل سوق؟ ملعونون علماء السلاطين.
أضف تعليقك