يفتقد الناس هذه الأيام العشرات، وربما المئات، من علماء الشريعة ورموز الثقافة والفكر الإسلامي في المملكة العربية السعودية ممن تابعهم الناس على التويتر – حيث يصل عدد المتابعين لبعضهم إلى الملايين – وشاهدوا برامجهم التلفزيونية وقرأوا لهم بعضا مما كانوا ينشرونه من حين لآخر.
فجأة لم يعد يُسمع لأحد منهم صوت ولا تصدر عن أي منهم تغريدة واحدة تستنكر قطع الأرحام والأوصال، وفرض الحصار الجائر على دولة قطر الجارة حيث الأشقاء وأبناء العم وحيث الأصهار والأنساب، وحيث أخوة العروبة والإسلام والإنسانية.
وما هي الجريمة التي بسببها يفرض الحصار على قطر؟ إنها جرائم وليست جريمة واحدة، منها احتضان قادة حماس وبعض أعضاء جماعة الإخوان المسلمين الفارين من بطش العسكر في مصر بعد الانقلاب العسكري الغاشم، والسماح بنشاط خيري متميز يقدم الدعم للمحاصرين في غزة ولضحايا الظلم والعدوان والفقر والحرمان وللأرامل والأيتام والأسر المعدومة في سوريا وليبيا واليمن وماينمار وبنغلادش والصومال وفي غيرها من بقاع العالم الإسلامي.
ومنها أيضا تبني قناة الجزيرة التي رفعت مستوى الوعي لدى الجماهير، ودعم عدد من المشاريع الإعلامية والثقافية التي توفر منصة لحرية التعبير في زمن سيطرت أجهزة الأمن في معظم أنحاء العالم العربي على كل الأبواق وسخرتها لتمجيد الجور والطغيان والتسبيح بحمد المستبدين الفاسدين.
هذه البلاد، بلاد الحرمين الشريفين، التي عرفت بتقليد الناس فيها، وخاصة النخب، لفقه الإمام أحمد بن حنبل لم يظهر فيها رجل واحد "بعد" يتمثل ذلك الدور التاريخي للإمام أحمد بن حنبل حينما أبى أن يصمت أو أن يلجأ إلى التقية ليقي بدنه سياط جلادي السلطان الجائر، الذي كان يسعى لحمله على تبني بدعة اعتزالية مقيتة.
كان صمود أحمد بن حنبل ينطلق من إيمانه بأن صمته أو تقيته في مثل ذلك الموقف كانت ستضلل جموع الناس الذين كانوا ينتظرون سماع كلمة منه تخالف موقفه المعروف في قضية "خلق القرآن".
عدد غير قليل من علماء الأمة في زمن ابن حنبل لم يقووا على مقاومة إرهاب أو إغراء السلطان، وتذرعوا بمختلف الذرائع ليداهنوا الجور والطغيان ويصمتوا أو يبرروا. لا تذكر أجيال المسلمين منهم أحداً، فقد قضوا بأنفسهم على ذكرهم في حياتهم قبل مماتهم.
ولم يرفع الله لأحد منهم ذكراً. أما أحمد بن حنبل فموقفه هو الذي رفع الله به ذكره، ونشر بفضله مذهبه الفقهي في الأصقاع، وبات علما من أعلام الأمة تنهل الأجيال من مدرسته جيلاً بعد جيل.
وهذه البلاد هي التي يعظم الناس فيها شأن الإمام ابن تيمية، الذي قضى زمناً غير قصير من عمره في محابس السلطان الجائر لأنه كان يأبى المداهنة ويرفض المساومة فيما يعتبره ديناً لا يخضع للبيع والشراء.
ومع ذلك، ورغم أن فتاوى ابن تيمية وكتبه هي الأكثر طباعة ونشراً في السعودية، وهي الأكثر اقتناء لدى من يسمون بطلاب العلم فيها، إلا أن أحداً من هؤلاء الذين طالما تحدثوا عن صموده وثباته وعن علمه وفتاويه يقف اليوم متأسياً بما اشتهر عنه من جهاد وتحمل بلاء في سبيل الصدح بالحق والأمر بالمعروف وإنكار المنكر.
وهذه البلاد التي تنسب إلى مجدد القرن الثامن عشر الميلادي في جزيرة العرب محمد بن عبد الوهاب، والتي يعتبر علماؤها آراءه في التوحيد أفضل شرح لمواقف السلف الصالح من قضايا الإيمان، لا نسمع اليوم فيها أحداً يحدثنا عن السنوات الأولى من عمر هذا المجدد والتي قضاها مطارداً منفياً لأنه كان ينهى عن البدع والانحرافات ويدعو الناس إلى إخلاص العبادة لرب الناس، ولا نرى منهم من يقتدي بسيرته الأولى التي لم تكن سوى ثورة على أمر واقع متعفن شهد تحالفاً بين علماء السوء وسلاطين الجور.
اليوم، يسكت علماء السعودية ويصمتون صمت القبور على الرغم من أن حرمات الله تنتهك في واحد من أعظم المواسم وأحرمها، في شهر رمضان المبارك، فيمنع الناس من العمرة، وإذا استمر الحال قد يمنعون من الحج، ويحال بين الأب وابنه والأم وابنتها، والأخ وأخيه، ويفرض حصار على أهل قطر أبشع من حصار قريش لبني هاشم وبني عبد مناف. يصمت علماء بلاد الحرمين حيث يكون الصمت فسقا!
أضف تعليقك