لماذا لم يعرف تاريخ النبوة وسيرة الرسول العطرة في انتشار أريجها عبر المكان شيئًا من الإبادة للآخر، تلك الإبادة التي شاعت مع كل فاتح ومحتل عبر التاريخ؟
حرر زيجموند باومان فعل الإبادة من ارتباطه باليهود، الذين يحبون أن يكون حصريًّا لهم لتثبيت المظلومية التاريخية وجناية آثارها، وانتهى إلى أن آلة الحداثة الجبارة تنتج ذلك الفعل الرهيب لا محالة، عن طريق تنميط مجموعة بشرية ما ونزع القداسة عنها، ثم تحييد الأخلاق وتهميشها إيذانًا بإلغائها لصالح الواجب العقلاني القاضي بوجوب التخلص من تلك المجموعة لتحقيق مصلحة عليا.
ويظهر أن الفرد في البدء كان مقدسًا، وكانت الفردية سمة الإنسان التي تمنحه الحرية والكرامة الكاملتين، ونتيجة تعارض الحريات وتقاطع الرغبات تنازل الأفراد عن جزء من حريتهم لصالح الجماعة في مقابل تحقيق شيء من التكافل يمكِّن من العيش المشترك، ثم تنازلت الجماعة عن حقها في القوة لصالح الدولة التي احتكرت بدورها العنف في سبيل تحقيق الأمن والرعاية لمواطنيها، وفي كل مرحلة كانت القداسة تنتقل من الفرد إلى الجماعة، ثم إلى الدولة. هذه الدولة «الحديثة» لم تتعامل مع الأفراد باعتباراتهم الإنسانية القيمية، بل بوصفهم أرقامًا مدونة في دفتر، وتلك «الدفترة» كانت ركيزة قيام الدولة التي يسهل من خلالها تنميط الأفراد وتوجيههم ثم استخدامهم حسب ما ترى الصالح لهم أو لها.
وفي مراحل التاريخ الكبرى كانت الدول التي تفيض لديها القوة تصدرها إلى الخارج رغبة في التوسع والهيمنة، لتحقيق الصالح العام لمواطنيها، وإعلاءً لقيمهم ولو على حساب «أرقام» آخرين هم في الحقيقة مواطنون لهم أيضًا قيمهم، فتحتل الدولة القوية أرضًا ما، وتبيد شعبًا يسكن هذه الأرض، أو تدمجه قصرًا في قيمها وعقائدها.
ولكن محمدًا في توسعه، أو دعوته لدين عالمي، لم يسلك سبل الغزاة أو الفاتحين -بحسب اختلاف النظر والتحيز-، ولم ينطلق من مبادئهم في ضرورة إبادة الآخر ماديًّا، أو قهره على الاندماج فيه بمحو تمايزه، وإزالة معالمه، وطمس ثقافته، ومسخ قيمه، وهي إبادة معنوية بلا شك، وإنما ترك صلى الله عليه وسلم مساحة للآخر يختلف فيها عن ذلك اللون العام للنسيج المجتمعي، ولكنه الاختلاف الذي يضفي على المجتمع ثراءً، ويصنع منه فسيفساء هي في الحقيقة أيقونة الحضارة والفن الإسلامي.
إن عمل محمد صلى الله عليه وسلم المضاد لعمل الحداثة في تقدير صفة الإنسانية، تلك القيمة الفردية أولًا، وتعميمها على الجماعة البشرية ليصبح المجموع تعبيرًا عن قيمة الإنسان، وليس رقمًا في جدول، ذلك العمل الأخلاقي في المقام الأول كان حائلًا دون التفكير في إبادة الآخر. ففي حين نزعت الحداثة القيمة الإنسانية عن جماعة ما، بعد أن نزعت تلك القيمة من الفرد نفسه وحولته إلى فرد منتج لجماعة استهلاكية يعيش هو بينها مستهلكًا لإنتاج الآخرين، في دورة مسعورة لا تنقضي إلا بانقضاء أجله، في حين فعلت الحداثة ذلك، كان النبي يرى بوضوحٍ القيمةَ الإنسانية متمثلة في الجماعة، ومستمدة من قيمة الإنسان الفردية، لكل فرد وجهه وملامحه، ولكل جماعة وجهها وخصائصها، حتى في أشد إجراءاته حدة، عندما حكَّم سعد بن معاذ في يهود بني قريظة الذين غدروا به في الحرب، قتل محاربيهم واستحيا نساءهم وأطفالهم، ولم يسحب الحكم عليهم جميعًا في تعميم نرى أثره متجليًا في الحداثة، لم يشوه الوجه الإنساني لجماعة بني قريظة ويمحو وجودها، لم يُبِدهم تحت أي رغبة، ولو كان الظرف يبرر إرادته ويساعده على ذلك.
كيف عامل محمد أعضاء جماعته؟
كان صلى الله عليه وسلم يلحظ البعد الإنساني في الناس، بتركيبه وتعقيداته، فلا يتوقف عند النظر إلى وجود الفرد المجرد كشيء له روح، بل ينظر إليه كإنسان يفرض وجودُه المجرد هذا حقوقًا له وواجبات، فيقف لجنازة يهودي، ويصلي على قبر امرأة كانت تقم في المسجد، ويفتقد جليبيبًا الذي لم يكد أحد يلحظ غيابه…
ثم يتوسع في أنسنته لكل ذي روح حتى يضفي على وجود الحيوانات بُعدًا إنسانيًّا، فيسمع شكوى الجمل الذي يجيعه صاحبه، ويمثل بصاحبة الهرة التي دخلت بسبب تجويعها النار، وصاحب الكلب الذي دخل بإروائه الجنة…
حتى الجمادات نالت من إنسانيته جانبًا، فسبح بعضها بين يديه وبكى بعضٌ لفراقه.
وكيف عامل المختلفين عنه؟
كانت حركة الإسلام في بدء أمرها – وينبغي أن تظل- حركة توسعية تهدف إلى الانتشار عن طريق الدعوة بالتي هي أحسن، والهيمنة بتذليل العواقب أمام هذه الدعوة بالحسنى، وإلى تغيير المنظور الإنساني بحيث يتواءم مع النظر الشرعي، فينضوي تحت هذا النموذج الكوني مَن اتفق مع الإسلام ومن اختلف معه مجتمعين على كلمة سواء، «أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ» [آل عمران: 64]، بذلك يحصل التمايز بناءً على المعتقد «لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ» [الكافرون: 6]، وبذلك أيضًا يتعايش الفرقاءُ في الاعتقاد رفقاءَ في الحياة تحت مظلة جامعة تحقق التناغم المجتمعي، وتتجاوز النشوز المستند إلى حقيقة الاختلاف القائم لا محالة؛ لأنه من سنَّة الاجتماع الطبيعي «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا» [الحجرات: 13].
إن تأكيد محمد – صلوات ربي وسلامه عليه- عندما أنشأ دولته الحديثة على جعل الأخلاق حاكمة لها، ومرجعًا لكل تفصيلاتها، تحت مظلة كبرى عنوانها: «أحب لأخيك ما تحب لنفسك»؛ كان بلا شك دعوةً مؤسسة لقيام الحضارة الإسلامية ووعدًا باستمرار الحضارة الإنسانية، أن تحب أخاك، بما تحمله الكلمة من علاقات وظلال، وما توحي به من تشابه في الوجوه، ودفء في الشعور، بل بكل ما تحمله من سمات إنسانية في النهاية.
أضف تعليقك