دم جديد يُراق في مانشستر، الإرهاب يضرب بريطانيا مجدّداً، لا يتأخر"داعش" في الحضور السريع، معلناً مسؤوليته عن الجريمة، وبسرعة أكبر. واستباقاً لبيان "داعش"، تكون الميديا قد اشتعلت بتغريداتٍ وتوقيعاتٍ تستحضر الإسلام متهماً.. يمتشق المثقف والسياسي العربي، المتواطئ على دم خصومه السياسيين، قلمه ويكتب، واضعاً "الإسلام المتطرّف" على لائحة الاتهام.
الربط بين "داعش" والإسلام هو العبث بعينه، ذلك أن المتضرّر الأول من إجرام التنظيم هو الدين الإسلامي نفسه، كما أن أول من يدفع الثمن هو المسلم العادي البسيط الذي يجد نفسه في فوهة مدافع التوجس والكراهية، والعنصرية، خصوصاً مع مشاهد الدماء والأشلاء التي تمزّق القلوب وتسيل الدموع، مثل كل مشاهد الجرائم ضد الإنسانية في كل بقاع الدنيا، وبالأخص في سورية ومصر والعراق وفلسطين.
بهذا المعنى، ينهض"داعش" بديلاً للأساطيل وحاملات الطائرات، في مشروع إخضاع هذه الأمة، وحشرها دائماً في تلك الزاوية الضيقة، لا تبرح كونها أمةً متهمةً بتصدير الإرهاب، ومن ثم لا تستحقّ أن تعرف حياة ديمقراطية، فضلاً عن أنها ليست مؤهلةً للحصول على الحرية وبلوغ الانعتاق من الطغيان والاستبداد.
لا يفيد الإسلام في شيء الاكتفاء بالقول إن إجرام "داعش" رد فعلٍ على مظالم سياسية وحضارية، ذلك أن الإرهاب الداعشي، بحد ذاته، فعل مصنوع، ويُدار بحساباتٍ دقيقة، تؤدي إلى بقاء هذه الأمة مسؤولاً وحيداً، ودائماً، عن كل الشرور في العالم، ومن ثم تراوح مكانها في حالة اعتذار حضاري مستمرة، تجبرها على العبث بموروثها الفكري ومعتقداتها، والإذعان لإرهاب المطالبين بتفكيك نصوصها المقدّسة، والتدخل فيها بالحذف والإبعاد، بما يناسب رغبات الذين يريدونها طوال الوقت منبطحةً ومعتذرة ومهانة.
يضرب "داعش" ضربته، فتنفتح أبواب جني الأرباح على مصاريعها، ويتدفق نزيف الخسائر من الأبرياء، وفي مقدمتهم المسلمون، في بلادهم أو في المهجر، إذ ينتعش الطغاة المستبدون، من حكامٍ لا يقلون فظاعةً عن "داعش"، ويحصلون على تسهيلاتٍ إضافيةٍ لمواصلة سحق الشعوب، ودهس أحلام التغيير والحرية والديمقراطية، فيما يجد المسلم المغترب نفسه "مشروع متهم" في مطارات الغربة ومرافئها، مطلوبًا منه أن يثبت إنسانيته وبشريته، وسط تحريض غير عادي من أنظمة الاستبداد في بلاده الأصلية، ضده.
ماذا يفعل "داعش" سوى أنه يضيق حصار المسلمين في مهجرهم، ويفاقم النظرة العدائية للإسلام، ويحرق ربيع العرب، ويمنح إسرائيل مزيداً من رفاهية الاستعلاء والغطرسة، ويطيل عمر الاستبداد العربي، ويوفّر غطاءً للعبث بالخرائط الجغرافية، وانتهاك الموروث الديني والحضاري؟!
من استفاد من جرائم "داعش"، على المستويين الحضاري والاقتصادي، سوى المتربصين بهذه الأمة؟.
في نوفمبر/ تشرين ثان 2015 كان "داعش" يُحكم سيطرته على الموصل في العراق، ويتحكّم في قسم كبير من إنتاجه النفطي، فكان يصب في مصافي إسرائيل، عبر وسطاء وسماسرة، تحصل منه على ما تريد، ثم تعيد بيع ما يزيد عن حاجتها إلى دول أخرى، بعضها عربية، كما ورد في تحقيق استقصائي للزميل عثمان محمد، نشر في "العربي الجديد"، متضمناً تعقيباً من قيادي داعشي لم يعبأ كثيراً بوصول النفط إلى الاحتلال الصهيوني، فالمهم هو البيع والربح، بصرف النظر عمن يدفع.
كتبت سابقاً إن "الحرب على الإرهاب" تحولت إلى مهرجان عالمي أميركي، يأتي كل عشر سنوات، يقام كل مرة في منطقة الشرق الأوسط، من دون غيرها، ويتحمل نفقاته الباهظة بعض الدول العربية، بينما يجد فيه بعضها الآخر فرصةً ربحية ثمينة، خصوصا تلك الأنظمة العاطلة، إلا عن ممارسة إرهاب الدولة ضد شعوبها.
ولأن لكل مهرجان أدوات، فالأدوات، في العادة، اختراع تنظيم إرهابي، يوضع عليه ملصق "الإسلام"، يتم إطلاقه وتغذيته حتى يتحول وحشاً مخيفاً، فيأتي الكبار إلى بلادنا بذريعة محاربته، وإنقاذ الحضارة البشرية منه، لكنهم، في كل مرة، يستهدفون الحضارات، قبل استهداف التطرّف.
هكذا استثمروا في "القاعدة" وتوابعها، والآن يستثمرون في"داعش".
كل "داعش" ولسنا بخير.
أضف تعليقك