• الصلاة القادمة

    الفجر 04:23

 
news Image
منذ ثانية واحدة

لا أدري من أين جاء البعض بأن الأدب بمختلف أشكاله يقع في دائرة القراءة والاستمتاع فقط أو أنه فسحة يرفّه المرء من خلالها عن نفسه ويتحرر من ضغوطات الحياة فيقرأه في استرخاء من يتحضر للنوم أو في مزاجية من يشرب فنجان قهوة يريد أن يسرح معه ويتخفف من رتابة الواقع!

 

لكل هؤلاء أقول، إن لقراءة الأدب آداب ليكون الانتفاع الصحيح بالقصص الذي يهندس الروح، كما يقول ستالين، ويشكل الهوية ويبني معالم الجمال أو القبح في النفس الإنسانية، فالأدب حالة استفزاز وتحفز وتحفيز لمكامن الشعور والتفكير، حالة تلاحم جميل ترسم بسمة أو تجري دمعة أو تدخل بك في ميدان فكرة، بغير هذه المعطيات تكون القراءة عملية اجترار لكلام مضامين وحبكات يتوه القارئ في أتونها ليخرج بنتيجة سطحية تتلخص بالقول هذه رواية جميلة أو قبيحة دون تبرير أو معرفة للأسباب!

 

بهذا الاستفزاز قرأت رواية (في قلبي أنثى عبرية) التي تروي الحبكة المعروفة لرحلة الإنسان من الكفر إلى الإيمان، ومن الشك إلى اليقين، إلا أن كلمة العبرية في العنوان يدعوك للتوجس فأنت محمل بتاريخ وتعايش حاضرا يرفض كل ما يتعلق حتى بظلال هذه الكلمة ومرافقاتها وأشكالها فما بالك أن تعشعش هذه الكلمة في قلب البطولة وتتجرأ على التمركز في قلب العنوان، ولو كان المكتوب يقرأ من عنوانه لاختار بعض أصحاب المبادئ أن يبتعدوا عن النص منذ البداية كما يبتعد المرء عن الشر ويغني له! ولكن الفضول المحمود من آداب القراءة أيضا، فلا يكفي النظر من على الشاطئ من يريد أن يغوص لصيد المعاني والأفكار.

 

تدور أحداث الرواية في مكانين: تونس حيث يعيش العرب ويتمتعون بعلاقات جيرة بل وزواج أحيانا مع اليهود، و لبنان حيث المقاومة التي لا تعرف اليهود سوى كصهاينة أعداء محتلين.

 

وتكمن خطورة الرواية في أنها تؤنسن الآخر (اليهودي في هذه الحالة) بناء على معطيات لا يعيشها كل العرب ولا يتصورونها، فاليهود لا يوجدون في بعض الأقطار العربية، ولا يمكن تخيل مشهد تحييد العداء ليأخذ أشكالا إنسانية من الجيرة والصداقة انتهاء بالزواج! مع التنويه أن المشكلة ليست في الدين وأتباعه، والنفور ليس تجاههم، غير أنهم شكلوا مادة الصهاينة المحتلين والمستوطنين والقتلة حتى أصبح الكلام الدارج يشير إليهم كيهود دون قصد في ذم الدين أو متبعيه بشكل عام! هذا بالإضافة أن الدين اليهودي استغل في إذكاء التطرف وإثبات ما يرونه أحقية في الأرض وفوقية فوق كل أجناس البشر! 

 

 الرواية خطيرة لأنها تؤنسن الآخر، والآخر هنا ليس كأي آخر، إنه ما زال يشكل للأمة العربية بمجملها عدوا احتل أرضا تحوي معالم مقدسة، كما احتل أجزاء واسعة من الأراضي العربية في مصر وسوريا ولبنان والأردن لذا ما دامت حالة الاحتلال قائمة فإنه من الخطورة بمكان النظر إلى اليهود بهذه الصورة وتقبلهم حتى لو كان بعضهم كذلك فعلا!

 

تقدم الرواية قصة ندى البطلة اليهودية التي يحملها الحب الطاهر لأحمد أن تتجشم الصعاب التي تكاد تودي بحياتها في رحلتها الخاصة من دين إلى دين، وفي البحث عن خلاصها وحيدة دون رفيق أو مساعد حتى من حبيبها وخطيبها الذي يفقد ذاكرته في معارك المقاومة.

 

الكاتبة تقدم القيم والأخلاق على لسان ندى، وهي يهودية، وتجعلها تتحدث مطولا عن أخلاقية الأديان، بينما يبدو العرب والفلسطينيون في موقف المتفاجئ من مواقف اليهود الأخلاقية، وهذا واضح في مشهد علاج ندى لأحمد عند إصابته في إحدى المعارك. وقد لا نختلف نظريا أن الأديان السماوية جميعها تحمل قيما أخلاقية، ولكن مدى تطبيقها على أرض الواقع وتبنيها كحالة عامة لا كشواذ عن القاعدة، هو ما لم تنقله الكاتبة للقارئ، وبالذات في الديانة اليهودية، واكتفت بتقديم ندى كحالة مختلفة عن محيطها وأهلها!

 

إلا أن نقاش قضية الأديان وعدم وجود الفواصل بينها وهذا التعامل الساذج البسيط المثالي في تقديمها من خلال التزاوج بين العائلات، يبتعد عن الحقيقة والواقعية، فأكثر الحروب شراسة في التاريخ كانت باسم الدين قديما، وهي الحروب الصليبية، وأشنعها مستقبلا يقدم باسم الدين أيضا وهي الملحمة التي يتحدث عنها اليهود أو ما يعرف ب armagadon 

 

فهل يكفي الحب ليتغلب على الحرب وحسن الظن أو سذاجة وطيب القلب ليحكم على مشهد غير واقعي ولا يحصل كثيرا في تقارب عوالم لم نراها إلا مختلفة ومفترقة ومتعادية؟ هل نعول على التصاهر في القفز عن سنين من التناحر؟ وهل يمكن تقديم ندى وأحمد كنموذج قابل للتكرار؟ وهل كانت هذه النهاية السعيدة ممكنة بدون تحول ندى إلى الإسلام؟

 

تحسن الكاتبة في تصوير التفاعل القلبي والصراع الداخلي والتغير في عواطف أحمد وتصوره لزوجة المستقبل من امرأة "بقلب رجل، لديها من القوة والحزم ورباطة الجأش بقدر الرقة والحنان والنعومة. تحمل هم الإسلام والأمة في قلبها أكثر من الموضة ونوع السيارة والمنزل ذي الحديقة والمسبح. لا يهمها الآخرون وماذا يقولون" إلى التفكير بيهودية ونسيان كل معاييره السابقة، ثم التفكير النمطي باعتناقها للإسلام والحوارات حول اليهودية والإسلام كلها تفتح آفاقا نحو معرفة الآخر وحوار الأديان، وإن كانت الكاتبة تتحيز في النهاية للإسلام، ويشتد الدفاع عن الإسلام في وجه الآخر إلى درجة المباشرة والخطابة وتتعمد الكاتبة أن يكون على لسان ندى التي عايشت غيره لتكسوه بالمصداقية وبالذات في الحديث عن الفتوحات ومفهوم الحرب في الإسلام وأخلاق الإسلام.

 

نبيلة وطاهرة قصة الحب العفيف بين ندى وأحمد في الرواية فحبهما لم يكن ناريا ولا مشتعلا ولا غريزيا، ولكن كان حقيقيا وقويا؛ ولذا صمد لأنواء الاختلاف ومعارضة الأقربين ومصائب البعد وفقد الذاكرة والأمل، وكأني بالكاتبة تقدم نوعا مختلفا عن قصص الحب المطروحة في السوق، وتعود بنا إلى رسالة ما زال البعض يؤمن بها ويمارسها مفادها: "يمكن أن تحب و تظل عفيفا، ورجل لايحرص على حبيبته حتى من نفسه ورغباته قبل وجود إطار محترم لها، لا يحبها ولا يحترمها".

 

في الرواية عناصر تشدك لا ريب، ولكن من مطالعة سيرة الكاتبة قد يتوقع القارئ معالجة أكثر حذرا للمواضيع الخطيرة، فالأدب الأخلاقي سامٍ و نبيل و موضوعي، ولكنه أيضا ملتزم، فهناك مدرسة بأكملها اسمها مدرسة الالتزام في الأدب وعندما يكون وطنك محتل وشعبك مشرد ومقتل؛ تصبح الصورة مختلة، والإحكام غير واضحة، وعندها لا تكون بحاجة إلى أدب يربك قيمك ويحول نظرك عن الهدف الأهم وهو مقاومة عدوك، ولكن هذا لا ينفي وجود القيم أيضا في الأدب المقاوم ولكنك كما تمسك بزمام القوة فأنت تمسك بزمام الرحمة تعطيها إعطاء القوي لا باضطرار الضعيف.

 

لقد خاض سيدنا سليمان نفس الرحلة المريرة حتى سمي الباحث عن الحقيقة، ولكن لم يبق في قلبه سوى إسلامه، حتى استحق هوية و كينونة أخرى يعرف بها فأصبح من آل بيت رسول الله، وبالمقابل عنوان الرواية لا يظهر هذا الانتقال في قلب ندى وإن كان حصل في مسار الحبكة وتحقق تماما في النهاية.

 

خطورة العنوان أنها تركز على القلب، والقلب كعبة، والمعبود لا يرضى بمزاحمة الأصنام، فلا يمكن أن ترسخ التحول إلا بقلب جديد تماما وعنوان يدل على ذلك بأضعف الإيمان "كان في قلبي أنثى عبرية"!

 

الرواية جميلة وتستحق القراءة بالرغم من خطورة بعض مضامينها على قارئ غر لم يتسلح بالمبادئ والقدرة على التفريق بين ما هو ممكن وما هو مستحيل، وما هو رومانسي خيالي وما هو واقعي، وما هو مقدس وما هو مدنس، هذه الرواية تحتاج إلى قارئ يؤمن بأن الحق و الثأر لا يسترد بالحب فقط بل بالقوة التي يغدقها الحب على المحبين في توحيد هدفهم وبوصلتهم نحو حب أكبر في شكل الوطن.

أضف تعليقك