(ا)نحمد الله تبارك وتعالى، ونُصلي ونسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين، أما بعد... فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته...
نحمد الله تبارك وتعالى على تهيئة هذه الفرصة التي اجتمعنا فيها لإحياء ذكرى جليلة ومحببة إلى القلوب، تلك هي ذكرى (الإسراء والمعراج) توافينا كل عام في مثل هذا الشهر الفاضل رجب الفرد، وهو شهر مبارك، أوقاته تشريفات ربانية، من كان محسنًا زاده الله إحسانًا فيه، ومن كان مُسيئًا فتح له باب القبول في هذا الشهر المبارك، في سَعَة وكرم.
ولن نتناول هنا الإسراء والمعراج بالشرح والتفصيل، فكلّكم تسمعون عنها، إنما هي نظرات سريعة، فالإسراء رحلة قام بها النبي- صلى الله عليه وسلم- من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، والمعراج رحلة سماوية، قام بها- صلى الله عليه وسلم- من المسجد الأقصى إلى السموات العُلى.
الرحلتان كانتا في ليلة واحدة، وباشرهما الرسول الكريم كإنسان كامل، وقد أشار القرآن إلى القصة في سورة الإسراء، وبعضُ الناس يقف عند القِصَّة وقْفةَ تأمُّل أو تردُّد، فيسأل: هل تتفق القصة ونواميس الله في خلقه، فيكون هناك إنسان خُلق من لَحم ودم ويحتاج لكل مقومات المادية، ثم يصعد إلى السموات، مع أننا نعلم تخلخل الهواء في مكان معلوم، وفقدان "الأوكسجين" في نقطة معلومة؟ كنا نقول لهؤلاء هي قُدرة الله تعالى، وسعت كل شيء فهو أمر ممكن لا يستحيل على قدرته تعالى، ولكن... هل أحطتم بكل العلم شاردِه وواردِه؟
الواقع أيها الإخوان أن العلم الحديث قد كشف تعليل ذلك في أن الإنسان فيه عنصر آخر غير عناصر المادة، ذلك هو العنصر النفساني، الذي يُطلق عليه عالم الروح والنفس، ولو كان العلم لم يصِل بعد لحقيقته، فإنه قد وصل إلى أن الروح لها من القدرة على الجسم ما تستطيع به أن تؤثر عليه وتحتجزه فتخضعه لقوانينها، لا لقوانين المادة، والواقع أن بعض الحوادث تفسر لنا ذلك، فهناك بعضٌ من صوفية الهند يستطيع أن يتحكَّم في جسمه بقوة روحه، ويمكث أسبوعًا، وعندنا التنويم المغناطيسي الذي يجعل الروح تسيطر على الجسم.
فالذي حدث في قصة (الإسراء والمعراج) أن الله تعالى أفَاضَ على نبيِّه الكريم قوةً روحيةً عُظمى، تحكمت في جسمه وسيطرت عليه، وليس معنى هذا أنه أُسري بالجسم دون الروح، وإنما أُسري بالروح والجسم، وبعض الناس يتساءلون: وما حكمة الإسراء والمعراج؟
وأعتقد أن الإسراء والمعراج مادة أساسية في منهاج التربية الإلهية، وذلك أن الله تعالى أعد رسوله الكريم ليكون سيد المربّين والمعلّمين، فلابد أن يكون بمنزلة من العلم تفوق أيَّ منزلة سواها من منازل البشر؛ ولهذا طاف الله به السموات ليكون إيمانُه رؤيةً ومشاهدةً، وليس إيمانًا نظريًا، وهناك حكمة أخرى فيها سموّ القدر وجلال المنزلة، فالحق تبارك وتعالى قد فرض الصلاة على المسلمين ليلة الإسراء والمعراج، ولم يشأ فرضها عن طريق الوحي كغيرها من الفرائض، وإنما استدعى نبيه الكريم؛ ليبين للنَّاس أن الصلاة جليلة القدر، عظيمة المكانة، وأنها مادة أساسية في منهاج التربية الإسلامية، فهي نظافة ونشاط وصحة وعلم وأخلاق..
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم..
نحمد الله تبارك وتعالى.. ونُصلي ونسلم على سيدنا "محمد" وعلى آله وصحبه ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين.
أظنكم قد أعلنتم أن حديث الثلاثاء سيكون في الإسراء والمعراج، وهو موضوع لا يُعالجه الإخوان كقصة، وإنما يُعالجونه كعبرة وعظة من جانب, وكدافع للعمل من جانب آخر وحسبنا فيه- كقصة- ما جاء به القرآن الكريم، أن الله تبارك وتعالى قال في الإسراء والمعراج: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ (الإسراء:1).
ففي هذه الآية التصريح بالإسراء، ومن لطائفها ذكر المسجد الأقصى مع أن المسجد الأقصى لم يكن مسجدًا اصطلاحًا، بل معبدًا، فإطلاق الله تعالى عليه مسجدًا فيه حافز للمسلمين ليفتحوا هذا المسجد، وليستولوا على هذه البقعة المباركة، ويناضلوا عنها، ويحافظوا عليها، حتى لا يخرج من أيديهم، وفيه بشارة بأنه سيكون مسجدًا، وأنه سيظل كذلك ولو كره الكافرون، وجزى الله تعالى ضيف مصر العظيم، سماحَة المُفتى الأكبر الحاج "أمين الحسيني"- رحمه الله تعالى- الذي تعرَّض لسفك دمه مرات كثيرة ليظل المسجد الأقصى مسجدًا، ولقد عرض عليه اليهود نصف مليون جنيه ليتنازل عن ثلاثة عشر مترًا في المسجد الأقصى فأجاب في إيمان الواثق: "والله لو جمعتم مال اليهود في العالم ما تركت لكم نصف متر".
والواقع أنها معجزات الإسلام، وأسباب من أسباب الصيانة أن يُسخِّر اللهُ أمثال سماحة المفتي لمِثْل هذه المواقف العظيمة، وكما أشار الله- تبارك وتعالى- إلى الإسراء أشار إلى المعراج في قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى* عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى* عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى* إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى* مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى* لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى﴾ (النجم 13: 18).
والذى يعنينا من الإسراء والمعراج أن كثيرًا من الناس يزعُم أن الإسراء والمعراج مصادمةٌ للنواميس الكونية، فإن انتقال إنسان من مكان إلى مكان بينهما هذه المسافة البعيدة مُحال في العادة، ويالَيتهم وقفوا عند هذا الحد، بل: قالوا: إنه عَرج إلى السماء فكيف إذن يتنفس؟ وظلُّوا يتشككون فترات طويلةٍ، وأسلافنا- رضي الله عنهم- لهم جواب، ولا يزالون يقولون به في مثل هذا الموضع: إنها معجزة خارقة للعادة، وقدرة الله تعالى صالحة، وذلك سنن للمؤمنين.. ﴿يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ* الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ* فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ﴾ (الانفطار:8)، بل نقول لهؤلاء المتشككين: تعالَوا نفكر قليلاً...
هل أدركتم سنن الكون جميعًا؟ إنكم تُقرون بأنكم لم تدركوا كل قوى الكون، ولم تُحيطوا علمًا بنواميس الطبيعة، فافرضوا هذا مما غاب عنكم علمه، ولم يصل إلى مدارككم فهمه ﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً﴾ (الإسراء: 85).
ولو استعرضتم تاريخ الكشوف العلمية لتذكرتم كيف قُوبل كل كشف منها بالجُحود والنُّكران، ثم نزل العقل الإنساني بعد ذلك على حُكْم الواقع بعد الإنكار والجحود، ونقول لهم كذلك: لقد أثبت العلم التجريبي الذي تعتمدون عليه أنَّ القوة النفسانية تستطيع أن تُؤثر في الأجسام المادية، فتنقلها من مكان إلى مكان، وترتفع بها عن سطح الأرض، فإذا استطاع الإنسان بقوته النفسانية أن يفعل ذلك، وأن يأتي بهذه الأعاجيب، فهل يكون بعيدًا على الله تعالى أن يمد نبيه بالقوة الروحانية التي استولت على جسمه الشريف، فصار الجسم روحانيًا محضًا، فاخترق هذا الجسم الروحاني تلك المادة؛ لأنه خرج من نطاق المادة إلى نطاق الروحية، ورحم الله "شوقي" إذ يقول:
بِهِما سَرَيتَ بمظهَرين كِلاهما
روحٌ وروحانيةٌ وضياء
وقالوا: إن موسى- عليه السلام- بعد أن انتهت معه فترة كلام العلي الأعلى، كان يسمع دبيب النملة من أربعة فراسخ! فما بالُكم به حالة التجلي، فكيف برسول الله- صلى الله عليه وسلم- وقد تجلَّى اللهُ تعالى عليه بالروحانية السابغة ما استطاع أن يخترق تلك الحُجُب المادية، فالروح في هذه الليلة هي صاحبة السيطرة على المعاني البدنية.
هذا وهناك نظرةٌ أخرى تعنينا، هي حكمة الإسراء والمعراج يسأل بعض الناس: ما الحكمة في الإسراء والمعراج؟،
كان أسلافنا رضي الله عنهم يقولون في الرد على هذا: أراد الله أن يكرم نبيه- صلى الله عليه وسلم-، فدعاه، فكشف له عن ملكوت السموات والأرض.
ملك الملوك إذ وهب
لا تسألَنَّ عن السبب
ونحن نقول: إن الإسراء والمعراج أمر لازم لتكوينه- صلى الله عليه وسلم-؛ لأن الله تعالى بعثه ليكون سيد المؤمنين، وأستاذ الأستاذين، وجعله النبع الصافي ومشرق النور، نور العلم والهداية للوجود، فـ(الدينامو) الذي يمد الدنيا بأسرها، يجب أن يشحن بأكبر قدر من العلم والإيمان وأقوى ما يكون العلم والإيمان إذ كان عن مشاهدة، لذا أطلعه الله على أسرار ملكوت السموات والأرض، ليكون من الموقنين فآمن إيمان شهود، وعلم علم يقين.. ﴿وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا﴾ (النساء:113).
وإذا كان "إبراهيم"- عليه السلام- أراه الله ملكوت السموات والأرض، فإن الله تعالى أرى نبيه- صلى الله عليه وسلم- ذلك الملكوت ليكون من الموقنين، وبصورة أوقع وأتم مما رأى إبراهيم؛ إذ كان- صلى الله عليه وسلم- خاتم النبيين، ومصدر الهداية لأهل الأرض أجمعين ﴿تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا﴾ (الفرقان:1) هذه واحدة..
الثانية: أنه قد فرضت في هذه الرحلة المباركة فريضة الصلاة، وذلك إعلانًا بعظيم منزلتها فقد أراد الله تعالى أن يشعره بعلو قدرها، فقررها من فوق سبع سموات؛ ليكون ذلك إيذانًا بقوتها وعظيم فضلها، وإلفاتًا لأنظار الناس بعلو شأنها من أقامها فقد أقام الدين.
وهناك معنى ثالث للعبرة: هو أن الله تعالى كأنه قال لهذه الأمة: يا أيتها الأمة التي لم يرض لنبيها إلا مطالعة هذه العوالم تشريفًا للقدرة، لا تكوني في ذيل الأمم، ولا ترضي بالدون، ولكن إلى العلا دائمًا، ولا تظني أن التأسي بالنبي- صلى الله عليه وسلم- في شيء، بل في كل شيء..﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ (الأحزاب: 21).
والله نسأل أن يعيد لهذه الأمة مجدها وعزها، إنه تعالى أكرم مسؤول، وأفضل مأمول، وصلى الله على سينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم ..
أضف تعليقك