• الصلاة القادمة

    العصر 13:46

 
news Image
منذ ثانيتين

وكأن التاريخ يعيد نفسه بصور كربونية منسوخة لتتعلم الشعوب أن رءوس الاستبداد والأنظمة الشمولية والعسكرية إنما تنبع في تفكيرها وجرائمها وتصرفاتها وبشاعتها وإرهابها، من حفرة واحدة تستقي منها الكراهية والحقد والظلم تجاه الشعوب التي تحاول الانتفاض من أجل بعض الحرية وبعض العيش الكريم حين تضيق بها السبل ويدب فيها اليأس في أن تقدم الأنظمة إصلاحات مختارة لشعوبها.

فمسلسل التفجيرات في مصر له تاريخ معروف ومتكرر، ففي مذكرات الرئيس محمد نجيب أول رئيس للبلاد بعد انقلاب يوليو يؤكد أنه وقعت ستة تفجيرات في أماكن متفرقة منها السكة الحديد والجامعة ومقهي جروبي وغيرها ولم يقبض على الفاعل حتى الآن، وقد عرفت بعد سنوات ـ والكلام لنجيب ـ أن هذه الإنفجارات كانت بتدبير من جمال عبد الناصر، كما اعترف عبد اللطيف البغدادي نائب رئيس الجمهورية في مذكراته, وذلك لإثبات أن الأمن غير مستقر ولابد من العودة إلى الحالة غير العادية.

وقد تكررت الأحداث نفسها حين عجز نظام مبارك عن مواجهة متطلبات الشعب نظرا لتفشي حالة الفساد والنهب المنظم لمقدرات الشعب وممتلكاته، والحالة الاقتصادية المتردية فكان تفجير كنيسة القديسين في حالة عبثية من الخلل الأمني وفي إصرار من النظام علي حماية الجهاز الفاشل الذي على أقل تقدير يبدأ من وزير الداخلية، وينبغي أن يُقدم للمحاكمة ويعزل من منصبه، غير أن هذا لا يحدث تحت الحكم الاستبدادي لأنه بكل بساطة وكما تقول كل الشواهد, وتثبتها فيما بعد, يكون هو الفاعل، أو المقصر المتعمد لإحداث حالة من الفوضى لتحقيق مآرب هي في النهاية لا تصب إلا في مصلحة تلك الأنظمة.

وكما هو دائما في خضم البحث عمن وراء كل جريمة, كبرى كانت أم صغرى, يفترض رجال الأمن عدة فروضات حين يبحثون عن الفاعل، أولها البحث عن المستفيد الأول من الجريمة، وقصة التفجيرات في مصر أصبحت حكاية ممجوجة ومقدمة لسيناريو معروف مسبقا, إذ تتم نفس الإجراءات في كل مرة من فرض مزيد من الإجراءات القمعية والتي تتبعها عدة قرارات اقتصادية تزيد من معاناة الشعب بحيث لا يجرؤ أحد على الاعتراض في ظل الانتشار المكثف لقوات الجيش بالشوارع بحجة الحفاظ علي الأمن.

أيضا تتبعها عدة إجراءات انتقامية لكل من سولت نفسه معارضة النظام ولو همسًا في ظل حالة التردي غير المسبوق التي تمر بها البلاد تحت مظلة الحكم العسكري الفاشي الفاشل, الذي لم يزد البلاد إلا فقرا وجهلا وتكميما للأفواه والآراء, وما القبض علي الصحفيين، وما القتل اليومي للأبرياء من المدنيين بغير ذنب، وما انتهاك حرمات البيوت الآمنة وتحطيم محتوياتها وخطف سكانها، وما حصار القرى وترويع الآمنين بها، وما زيادة الأسعار التي صارت نارا يكتوي بها الجميع حتى صار البحث في المخلفات صورة معتادة في مصر، وما شروط صندوق النقد الدولي والبنك الدولي بإلغاء الدعم نهائيا عن المواطن المطحون بطبيعته؛ ما كل هذا إلا قرارات وإجراءات تحتاج لمزيد من التغطية الأمنية القمعية لتكمم الأفواه وترعب وترهب الشعب الذي لم يجد من يحنو عليه! كل هذا علاوة على التغطية على الزيارة الفاشلة لبلاد العم سام الذي كان في حاجة لعمل ما يدعم به حليفه وسط حالة من الرفض الشعبي له، بل وإرهاصات ثورة الجوعى التي تهدد البلاد فكان لا بد من عمل ما يزلزل أركان المنظومة الأمنية في البلاد بحيث يعيش الشعب في حالة من الضغط والرضوخ بحجة محاربة الإرهاب، فيصبر مضطرا، ويرضي قهرا على الجوع المستفحل، والمرض المستشري، والتجهيل المتعمد، ولست هنا أجزم بأن الفاعل هو النظام بيده مع أن كل السوابق تدل على أن المجرم واحد، فخروج تواضروس من الكنيسة بالإسكندرية قبل التفجير بربع ساعة يقول إن الأمر معروف مسبقا، وتحذير الصهاينة لرعاياهم في مصر بمغادرتها يقول نفس الشئ، وإسراع ترامب لإعلان تأييده للسيسي في محاربته للإرهاب تقول إن الأمر معدٌ بليل ليكون هناك سبب لتلك المؤازرة، فمن نفذ تفجير كنيسة القديسين هو الوحيد القادر على تنفيذ تفجير الكاتدرائية، وهو الوحيد القادر علي فض رابعة والنهضة، هو الوحيد الذي يملك آلة القتل اليومي في الشوارع والشقق السكنية، سواء كان منفذا بيده أو بتقصيره المتعمد لإحداث تلك الحالة من الهلع التي تنسي الشعب أنه جزء من البشرية لها احتياجاتها الإنسانية, من ملبس ومأكل ومشرب وكرامة وأمان، ليرضى الناس بمجرد البقاء على قيد الحياة، ولو كانت حياة لا ترقى لحياة الحيوان.

وإنني أجزم الآن أنه في الأيام القليلة المقبلة ستكون هناك إجراءات اقتصادية شديدة الوطء علي المواطن وستكون بداية رفع الدعم بشكل كامل ورفع في الأسعار بشكل جنوني قد يعجز معه البعض على الاستمرار في العيش تحت مظلة حكم الطوارئ التي أعلنها قائد الانقلاب عقب التفجير مباشرة.

 وإنني أجزم أن هناك مزيدًا من الأبرياء والأحرار المختفين قسريا سوف يتم (تصفيتهم) ليتكرر سيد بلال بألف سيد بلال غيره وسط حالة مختلفة من الوعي بدأت تستشري بين أفراد الشعب المصري؛ مسلميه ومسيحييه بعدما انحازت مؤسساته الدينية (الأزهر والكنيسة) لمصالحها الشخصية بتأييد الانقلاب الدموي على حساب مصلحة الشعب, وظهر ذلك جليا في هتافات الأقباط الذين يحرص النظام على تغييب أصوات بعضهم ضده, حين رأوا أن دماءهم يتم التضحية بها في مقابل مصلحة رأس الكنيسة وحده.

والكرة اليوم ليست في ملعب الغرب المتفرج والمشجع على إهدار دماء الشعوب المستضعفة في سبيل تحصيل أي كسب سياسي أو اقتصادي, وإبعاد ما يسمي الإسلام السياسي عن سدة الحكم في بلاد العرب, حتى لا تتكرر التجربة التركية في غفلة  منهم.

وليست كذلك في ملعب الأنظمة التي تفكر بنفس الآلية ولن تتغير وسوف تقوم بإهدار المزيد من الدماء في سبيل الحفاظ علي كراسيها أطول فترة يمكنها من خلالها امتصاص ما تبقى من دماء حتى ولو استمرت آلة القتل ليل نهار.

إن الكرة اليوم في ملعب الشعب، والشعب وحده وبكل طوائفه هو من يستطيع حسم المعركة لصالحه.

 إن الشعب المصري يقف اليوم على حافة هاوية الدمار يدفعه إليها نظامٌ همه الأول تجريف تلك البلاد وليس حكمها، وقد آن الأوان أن ينتفض ويعلن غضبته الموحدة لإنقاذ بلاده قبل أن يفوت الأوان, وتصبح مصر ليس سوريا والعراق، وإنما أندلسًا أخرى.

 

أضف تعليقك