بعدما بث شريط الموت الذى أطلعنا أمس الأول (4/4) على ضحايا غارات الغاز السام التى استهدفت بلدة خان شيخون فى ريف إدلب، أزعم أن أى عربى شاهده وعرف النوم فى تلك الليلة لابد أن يكون قد أصيب بفساد الضمير وتشوهه.
أدرى أن سوريا أصبحت بلاد الموت واستعراض فنون الإبادة، التى يستعرض حلقاتها كل يوم قتلة هواة ينتمون إلى داعش وأخواتها، وقتلة محترفون ويمارسها النظام البعثى منذ تمكن من السلطة.
إلا أنه لم يتح لنا أن نرى الضحايا وهم يتعذبون فتتلوى أجسادهم العارية ونسمع حشرجاتهم وهم يلفظون أنفاسهم الأخيرة. وهو ما فعله الشريط الفاجع الذى رأيته مع غيرى مساء يوم الثلاثاء، وظلت مشاهده المروعة تلاحقنى وأصوات الحشرجات الواهنة تدوى فى أذنى طوال الليل.
بحسن نية تصورت أن شيئا ما لابد أن يحدث فى العالم العربى فى اليوم التالى. مسئولون يرفعون أصواتهم غضبا أو اجتماع طارئ لأى لجنة أو منظمة تنسب نفسها إلى الأمة العربية، أو مظاهرات غاضبة تخرج إلى الشوارع، تطالب بوقف المذبحة. لكن شيئا من ذلك لم يحدث، باستثناء التصريحات والبيانات الاستنكارية التى مللنا إطلاقها، وعلمتنا التجارب الطويلة والمريرة أنها من قبيل الكلام الأجوف الذى يخاصم الفعل، حتى بدا وكأن العرب أصيبوا بالعقم والخرس.
فى سبعينيات القرن الماضى نشرت صورة لطفلة فيتنامية هى كيم فان وهى تركض فى الشارع عارية ومذعورة، بعدما ألقيت قنابل النابالم على قريتها «تراج بامج»، وإذ صدم العالم برؤية الصورة فإنها حركت المياه الراكدة آنذاك، وأحرجت الحكومة الأمريكية التى كانت تقود الحرب. وكان نشرها أحد العوامل التى أسهمت فى وقف الحرب. دخلت الصورة التاريخ، ولاتزال واحدة من أهم عشر صور فى العالم، فإن المصور الذى التقطها (نيك أوت) صار نجما وانهالت عليه الجوائز وجرى تكريمه فى العديد من عواصم الغرب.
منذ دخل العالم العربى عصر الانبطاح، لم يعد يكترث أحد بالقتل الوحشى الدائر فيه. جرائم إسرائيل جرى التستر عليها، حتى تلك التى انفضح أمرها وذاع سرها على الملأ ــ وليست منسية صورة الطفل محمد الدرة الذى قتل وهو فى حضن أبيه، ولا قصة إحراق المستوطنين للطفل الرضيع على دوابشة وعائلته الذى صار خبرا عاديا. غاية ما هنالك أن العالم أصيب بالدهشة حين جرفت الأمواج جثة الطفل السورى ايلان كردى على الشاطئ التركى. وحين شاهد الجميع صورة الطفل عمران دقنيش الذى أخرجوه من تحت ركام بيته المدمر فى حلب، فإن خبر بكاء المذيعة الأمريكية وهى تبث الخبر طغى على صورته وهو جالس ذاهلا وزائغ العينين.
هان العرب على العرب فاستهان بهم العالم. وخرج الإرهاب من عباءة الظلم فانشغلنا بإرهاب الجماعات وغضضنا الطرف عن إرهاب الظالمين. وضاقت السبل بالسوريين فخرجت جموعهم إلى الشوارع منادية «ما إلنا غيرك يا ألله».
وتمكن اليأس والإحباط من صبى سورى فأطلق قبل أن يموت عبارته المدوية: سأخبر الله بكل شىء. إذ فقد الأمل فى عدالة الأرض فلجأ إلى عدالة السماء. واشتهرت عبارته حتى كتب عنها شاعر لا أعرفه هو حسين حماد قصيدة قال فيها: سأخبر الإله أننى ــ رأيت جُبنكم ــ يعبئ السلام بالرصاص ــ وكان جُل تبغه ــ من لحمنا ــ ويشعل السيجار ــ من أكبادنا ــ ويتكئ فى نشوة ــ على وريد قلبنا ــ سأخبر الإله يا أشجار قريتى ــ فى ليلهم ــ شاهدتهم ــ يوزعون ضحكتى ــ ويشربون بسمتى ــ فى حفلهم ــ ويسمرون فوق جثتى ــ سأخبر الإله ــ يا أوجاع قريتى.
لن يتغير شىء من حولنا إذا ما عصف بنا الحزن، لكننا سنفقد إنسانيتنا إذا لم نغضب.
أضف تعليقك