لا يكفي في معالجة زوبعة منى جمال عبد الناصر والسفير الصهيوني، اعتبار المسألة لا تستحق أكثر من تصريحات سريعة، على لسان أسرة "الزعيم" تنفي فيها حضور السفير حفل زواج حفيده، داخل منزل الوالدة بالقاهرة.
الكلام عن حضور سفير العدو مناسبة عائلية، بمنزل عائلة الرجل الذي تسجل ذاكرة التاريخ أن إسرائيل اعتبرت يوم موته عيدا، هو بمثابة زلزال سياسي، لا يقل في شدته عن زلزال ذهاب أنور السادات إلى القدس المحتلة، ومن ثم فإن التصدي له لا يصح أبداً أن يقتصر على تصريحات للشقيقة "هدى" أو للشقيق الأصغر "عبد الحكيم" يقولان فيها إنها محض شائعة، بينما الطرف الأساس في الحكاية المسيئة تلتزم الصمت، فيما تتمدد أحبال النميمة والثرثرة، بين من يؤكد، ومن ينفي.
شائعة مثل هذه، إن صحت فهي فضيحة وعار تاريخي، وإن كانت كاذبة فهي جريمة بحق مطلقيها وناشريها، تستوجب الاعتذار عن النشر، أولاً، وإعلان الاستعداد للمساءلة ثانياً، وكما قلت في لحظتها فإن أي شخص لديه تأكيد لخبر حضور السفير الصهيوني حفل منى عبد الناصر، يتفضل مشكورا ويخرس كل الألسنة ويعلن وثائق جريمتها.
وإن لم يستطع تأكيد الخبر فعليه قبل أن يخرس ويرحمنا من الكذب الفاحش، أن يعتذر عن جريمته، ويُحاسَب عليها.
واللافت أن إطلاق هذه الحدوتة جاء في توقيت دال للغاية، إذ راجت القصة قبل أن يشد الحكام العرب الرحال إلى البحر الميت، للاجتماع في "قمة عربية" هي الأكثر إرضاء للمشيئة الصهيونية، إذ تراجع فيها الموضوع الفلسطيني، الذي هو من المفترض نظرياً، قضية العرب المحورية والأولى، لصالح الموضوع المفضل لدى العدو الصهيوني، وهو الحرب على الإرهاب، التي باتت تتخذ معنى جديداً منذ بدأت سلسلة الانقلابات على ثورات الشعوب العربية، بحيث صار الإرهاب وفقاً للترجمة العبرية، مرادفاً لمقاومة الاحتلال، ومناهضة الثورات المضادة في بلاد العرب.
وكأن المنتج المنفذ لدراما قهر الذات العربية، والعبث بذاكرتها القومية، قد اختار سيناريو "بنت عبد الناصر والسفير الصهيوني" بعناية فائقة، وتوقيت شديد الذكاء، ليهيئ الأذن العربية للتعاطي السلس مع قمة لا تنشغل بمواجهة العدو الصهيوني، بقدر ما تشغل نفسها بمزيد من الرعاية والاحتضان للجنرالات الذين يتنافسون على إسعاد إسرائيل وكسب رضاها.
من هنا كان التفكير في إغراق الجماهير في حكاية شديدة الإثارة الدرامية، محورها الرئيس أن ابنة جمال عبد الناصر، الذي قضى نحبه بعد دقائق من انتهاء قمة عربية خصصت للتباحث بشأن إعلان الحرب على إسرائيل لمحو عار هزيمة يونيو 1967، ترقص في حضور سفير دولة العدو، احتفالاً بزفاف ابنها وابن أشرف مروان، الذي لا تترك الميديا الصهيونية مناسبة إلا وتعلن فيها أن زوج ابنة الزعيم أنفق نصف عمره خادما للمشروع الصهيوني، بعد تجنيده جاسوساً للاحتلال.
بالطبع يدرك صناع هذه الدراما، أنها وإن كانت كاذبة، فهي صالحة للاستهلاك والرواج، في مناخ مشبع بأبخرة الرغبة في الشماتة والتشفي وغرس الأنياب في لحوم الخصوم التاريخيين، فكان أن انزلق كارهو عبد الناصر إلى الفخ، وتعاملوا مع القصة على أنها حقيقة لا تقبل الشك، فيما انصرف اهتمام آخرين إلى رقصة أم العريس احتفالاً بولدها، بينما قرر تجار الحكاوى التاريخية الحريفة استثمار الموضوع، مستعرضين عضلاتهم المعلوماتية المنتفخة، باستدعاء قصة أشرف مروان، والانطلاق منها إلى الجزم بأن السفير قد حضر، وأن ابنة عدو دولة السفير قد رقصت بحضوره.
غير أن أكثر ما يدعو للدهشة أن تكتفي عائلة عبد الناصر بمداخلة تلفزيونية، من دون أن تذهب أبعد من ذلك، وتطالب الصحف التي نشرت الحدوتة باعتذار في مساحة مساوية لمساحة النشر، أو ترفع شكواها لنقابة الصحافيين، أو تذهب إلى القضاء، كما كانت تفعل في مناسبات أقل إساءة وأصغر فضائحية من الادعاء بأن ابنة الزعيم دعت سفير الصهاينة إلى عرس ابنها، ورقصت.
السؤال هنا: إذا كانت تلك رغبة المنتج المنفذ في صناعة دراما تطبيعية فاضحة، لمناسبة انعقاد قمة البحر الميت، فلماذا تستسلم أسرة عبد الناصر لرغبات المنتج وتقف مكتوفة الأيدي على هذا النحو الغريب؟!
أضف تعليقك