الحكم الذي أصدرته محكمة جنح مستأنف قصر النيل بالحبس عاما مع وقف التنفيذ لمدة 3 سنوات بحق نقيب الصحفيين السابق يحيي قلاش وزميليه خالد البلشي وجمال عبد الرحيم عضوي المجلس السابقين، ليس مجرد فلاش ضوء تحذيري، ولكنه يحمل رسالة قاسية لا تخطئها عين، وهي أن السلطة القائمة ماضية في طريقها لتأديب الصحفيين وعلى رأسهم كبارهم الذين انتخبوهم بأعلى الأصوات ليمثلوهم في نقابتهم خلال الدورة المنتهية، والذين جرت في عهدهم تحركات مناهضة للنظام على سلالم النقابة وداخل قاعاتها للاحتجاج على التنازل عن جزيرتي تيران وصنافير للمملكة العربية السعودية، وهو ما لحقه اقتحام الشرطة للنقابة للقبض على اثنين من الصحفيين المعارضين، ومن ثم تقديم النقيب وزميليه للمحكمة بتهمة إيواء هاربين.
والطريف في الأمر أن أحد هذين الصحفيين الهاربين هو عمرو بدر تم انتخابه في الانتخابات الأخيرة عضوا بمجلس نقابة الصحفيين في رسالة مباشرة من الصحفيين بالتضامن معه ورفض حبسه.
كان الحكم (الحبس عام مع وقف التنفيذ) متوقعا على نطاق واسع ذلك أن السلطة كانت راغبة بالفعل في معاقبة الثلاثي (قلاش والبلشي وجمال)، خاصة بعد أن دافع السيسي صراحة عن إحالتهم للقضاء مدعيا أن القضية جنائية وليست سياسية، ولكن السلطة أيضا كانت راغبة في تخفيف ردود الفعل المتوقعة سواء من جانب قطاع كبير من الصحفيين المصريين المدافعين عن الحريات، أو حتى من المؤسسات والمنظمات الدولية المعنية بحرية الصحافة، وبالتالي جاء الحكم في منزلة بين المنزلتين، فقد خفف العقوبة السابقة التي كانت تقضي بالحبس عامين مع غرامة مالية قيمتها 10 آلاف جنيه عن كل واحد، ولكنه لم ينزل إلى مستوى البراءة التامة كما يقتضي حال القضية وتقتضي رغبة جموع أنصار الحريات في الداخل والخارج، واكتفى الحكم بالحبس عاما فقط مع وقف التنفيذ لمدة 3 سنوات، وبالمنطق القانوني يظل هذا الحكم سيفا مسلطا على رقاب النقيب السابق وزميليه طيلة هذه السنوات الثلاث، إذ لو تعرض أحدهم لمحاكمة أخرى قضت بحبسه فإنه سيكون ملزما بقضاء الحبس الجديد والقديم معا.
في سياق رغبة السلطة ورجالها في الانتقام -ولو بقدر- من الصحفيين الثلاثة غاب قادة النقابة الحاليين الذين تم انتخابهم مؤخرا وعلى رأسهم نقيب الصحفيين الجديد عبد المحسن سلامة ووكيلا النقابة وسكرتيرها العام وحتى رئيس لجنة الحريات عن حضور جلسة المحكمة، وهو الحد الأدنى للتضامن مع زملاء لهم ليست لهم تهمة سوى الدفاع عن النقابة والزملاء الصحفيين، وتفسير هذا الغياب هو حالة الاستقطاب القائمة حاليا بين الفريقين القديم والجديد، وحرص الجديد على التماهي مع رغبة السلطة التي دعمت وصوله إلى مجلس النقابة، ولا يقلل من هذا الغياب صدور بيان من مجلس النقابة الجديد بالتضامن مع قلاش وزميليه في مرحلة النقض، وتكليف محامي النقابة بتقديم المساعدة، فالمعروف أن حكم النقض قد لا يصدر إلا عقب مرور السنوات الثلاث الموقوف فيها التنفيذ، وبذلك فربما تنجح جزئيا في تحقيق هدفها وهو إسكات أصوات هؤلاء الصحفيين الثلاثة طيلة هذه المدة خشية تعرضهم لمحاكمات جديدة تجبرهم على دفع الفواتير القديمة والجديدة.
لا يمكن فصل هذا الحكم عن السياق العام الضاغط على حرية الصحافة في مصر، والذي أعاد حالتها إلى مرحلة الستينيات، وما أدراك ما الستينيات، حيث هي الفترة التي شهدت تأميم المؤسسات الصحفية المصرية، وإنشاء التليفزيون الرسمي للدولة (ماسبيرو). فها نحن اليوم نشهد شكلا جديدا لتأميم المؤسسات الصحفية من خلال عمليات دمج وشراء ونقل ملكية لصحف وقنوات من بعض أصحابها إلى رجال أعمال جدد يمثلون غطاء ظاهرا للأجهزة الأمنية، ولم تكتف السلطة بما وضعت يدها عليه من منابر إعلامية قديمة (ماسبيرو والصحف القومية) أو حديثة (قنوات خاصة) ولكنها عمدت لإنشاء قلعة إعلامية جديدة خصصت لها مئات الملايين وهي (دي إم سي) أو ما يمكن أن نطلق عليه (ماسبيرو الجديد) في مواجهة ماسبيرو القديم الذي شاخ ولم يعد لديه القدرة على تلبية احتياجات ورغبات هذه السلطة بكفاءة عالية، كما أن الحكم جاء مواكبا لتشريعات جديدة قننت هيمنة السلطة التنفيذية على المؤسسات الإعلامية مثل المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام والهيئتين الوطنيتين للصحافة والإعلام، وذلك من خلال منح السيسي صلاحية اختيار رؤساها وعدد كبير من أعضائها ما يخل باستقلالها الذي نص عليه الدستور، ومن المتوقع أن يتم اختيار شخصيات أكثر قربا من السيسي لتولي رئاسة هذه المؤسسات الجديدة، وعلى رأسهم مكرم محمد أحمد نقيب الصحفيين الأسبق وكاتب خطابات الرئيس المخلوع مبارك، والذي أفرط في نفاقه للسيسي مؤخرا وفي حضوره حين إدعى بصوت خطابي عال أن حرية الصحافة في مصر غير مسبوقة الآن، وأنها الأفضل على مستوى المنطقة كلها وسط تصفيق حار من الحضور، فيما بدا أنه مقدم ثمن صفقة تعيينه رئيسا للمجلس الأعلى للإعلام رغم ملامسته للثمانين.
يمكنني أن أنتقد قطاعا واسعا من الصحفيين فضل بطنه على عقله وعلى كرامته وحريته في الانتخابات الأخيرة (مع تجديد التحية لأنصار الحرية) ولكنني لا يمكنني أن أتجاهل دور النقيب السابق يحيي قلاش في ما آلت إليه أمور الحريات الصحفية في مصر والتي وصلت إلى حد صدور حكم بحبسه شخصيا، ولولا الملامة المحلية والدولية لكنا وجدناه اليوم قابعا بين حوالي مائة صحفي محبوسين في سجون مصر لم يفعل لهم قلاش شيئا ولو رمزيا، ما أغرى السلطة بحبس المزيد بل وبالتحرش به هو شخصيا بعد أن أعطاها من رسائل التخاذل ما يكفي لتشجيعها على هذا المسلك، وخاصة بعد أزمة اقتحام النقابة وانعقاد جمعية عمومية طارئة وحاشدة وملتهبة تدخل قلاش لتبريد قراراتها التي كان عليه أن يسهر على تطبيقها، وكذا بعد تجاهله مؤخرا للسلطة التي اقتحمت النقابة وقدمته هو للمحاكمة وحكمت بحبسه، وبدلا من مواجهة هذه السلطة القمعية عمد قلاش للتهجم على الإخوان المسلمين بلا أدنى مبرر اللهم إلا التزلف للسلطة قبيل صدور الحكم ضده، ورغم هذه الانتقادات على آداء النقيب خلال عاميه إلا أن الواجب الوطني والنقابي يحتم الوقوف معه ضد هذا الحكم وضد تلك الهجمة عموما على حرية الصحافة.
أضف تعليقك