• الصلاة القادمة

    العشاء 17:29

 
news Image
منذ ثانيتين

 لا أعرف السبب وراء "حديث الذكريات" في هذا العام عن يوم التنحي، فلا أعتقد أن يوم تنحي الرئيس المصري حسني مبارك، وجد اهتماما به وما دار فيه في ذكراه في السنوات الخمس الماضية، مثلما حدث في هذا العام.

في حديث الذكريات فإن هناك من اعتبروا أن بداية الأخطاء، هو ما جرى في هذا اليوم وبالتسليم بتنازل مبارك عن السلطة لمجلسه العسكري، وإذا كان هناك من وصفوا ما جرى بانقلاب قصر بمقتضاه تمت إزاحة مبارك لصالح المجلس العسكري، فإن هناك من تحدثوا عن مواقف لم يذكروها من قبل، من أنهم دعوا لعدم ترك ميدان التحرير، بحثا عن بطولة بأثر رجعي، هذا فضلاً عن أن هناك من احتفلوا على قواعد الحسرة، فترحموا على زمن "أبو علاء" مبارك، فلا يعرف قيمته إلا من عاش في زمن "أبو محمود" السيسي!

والمعنى، أن اجترار الذكريات في ذكرى التنحي هذا العام، يأتي انطلاقاً من خيبة الأمل، وقد بدا أن الثورة قد فشلت، وبدا الحاصل الآن أسوأ مما كان عليه في زمن المخلوع، وبدا العسكر، وقد ركبوا الثورة، ليقضوا عليها، وقد نجحوا في هذا العام حد أن يوم 25 يناير مر بدون خروج مظاهرات ولو من باب إحياء الذكرى. فالاحتفال بيوم التنحي يأتي هذا العام من قبل من شاركوا في الثورة من منطلق "جلد الذات"، فهل كان أمامنا خيار آخر؟!

يؤسفني، أنني لم أسمع بهذه الدعوات التي يقول أصحابها أنهم رفعوها في يوم التنحي بعدم مغادرة "ميدان التحرير"، بما في ذلك ما قيل منسوباً للشيخ حازم صلاح أبو إسماعيل، والذي ربما قاله بعد أن تشكلت حركته "حازمون" وبعد أن اتخذ موقفاً حاداً من حكم المجلس العسكري، وإن كنت لا أستطيع أن أؤرخ لبداية هذا الموقف، فإنني أستطيع الجزم بأنه كان سابقاً لموقف الذين انتحلوا "صفة شباب الثورة"، والذين استمدوا شرعيتهم من دعوات المجلس العسكري لهم لحضور الاجتماعات التي كان يدعوهم إليها، كما يدعو لها المعارضة الرسمية لنظام مبارك، صنيعة مباحث أمن الدولة، لإحداث التوازن في مواجهة الإخوان المسلمين. صحيح أن الجماعة كانت تبدو من حيث الشكل في حالة تماهي مع المجلس العسكري، لكنها كانت تتحرك بخطة، تقوم على طمأنة القوم ثم إنهاء وجودهم بالانتخابات، في حين آن الآخرين لم تكن لهم رؤية، ونادي محمد البرادعي بصوت جهير بضرورة أن يتم المد للعسكر في الحكم لسنتين قادمتين!

وفي الوقت، الذي دعت فيه جميع الأطراف إلى اجتماعات العسكر، وروجت لأكذوبة الجيش الذي حمى الثورة، كان عشرات يتظاهرون في ميدان التحرير، يطالبون بإسقاط حكم المجلس العسكري، ويهتفون برحيل المشير محمد حسين طنطاوي، من بيتهم طبيبة مصرية تعمل في الولايات المتحدة الأمريكية اسمها "سلمى أبو المجد"، وظلوا يتظاهرون لعدة أيام، بعد تنحي مبارك، فلم يدعمهم حتى أولئك الذين يدعون الآن، وبأثر رجعي، أنهم كانوا مع مواصلة الثورة، وعدم الاكتفاء بتنحي مبارك!

إن القراءة الموضوعية للمشهد في يوم التنحي، يمكن أن تنهي مشهد لطم الخدود في الذكرى السادسة لهذا اليوم، فلم يكن بالإمكان أكثر مما كان، والأخطاء لم تكن بالموافقة على تسليم مبارك الحكم لمجلسه العسكري، فإن كان هذا خطأ فقد جرى تداركه عندما حمل الثوار المجلس العسكري على إجراء الانتخابات، التشريعية والرئاسية وكانت نية العسكر قد عقدت على الاستمرار في الحكم، وحشدوا نخبتهم لتحقيق هذه الرغبة، التي أحطبتها الثورة، لكن الجريمة التي نحياها الآن، هي بسبب أداء فصائل الثورة، وكل فصيل استقوى بالعسكر على الفصيل الآخر، فالإخوان ألهاهم التكاثر وظنوا أنهم لن يهزموا بعد اليوم من قلة أو من ضعف وبدا لهم أن المجلس العسكري في خدمتهم، فانطلقوا غير معنيين برفقاء الميدان، وعملوا على استمالة "الفلول" وعملاء الأجهزة الأمنية سابقاً، فيعين خالد صلاح، وإبراهيم حجازي، وصلاح منتصر، في المجلس الأعلى للصحافة مثلاً، ويستبعد عبد الحليم قنديل، وعبد الله السناوي، وسليم عزوز!

وفي المقابل، فإن الفصائل الأخرى، ذهبت إلى الفلول تستقوي بهم، ومن عضو لجنة السياسات جابر نصار، إلى المعارضة الرسمية لمبارك؛ فمن سيد البدوي إلى سامح عاشور، إلى نجيب ساويرس، وتقزم الخطاب الثوري، فصار من يعبر عنه هم إعلاميو الثورة المضادة مثل لميس الحديدي، وعمرو أديب، وخيري رمضان، ومحمود سعد، وكل الإعلاميين الذين كانوا يستعدون لتبني التوريث، وكانوا من الاختيار الحر المباشر لنظام مبارك وأجهزته الأمنية.

كما استقوت هذه الفصائل أيضاً بالجيش وبشرطة مبارك، وكان يوم 30يونيو هو تجمع للفلول تحت راية ثورية، توحد فيها البرادعي مقدم البلاغ للنائب العام ضد من قتل "جيكا"، مع "أحمد جمال الدين" وزير الداخلية المقال والمتهم بقتل الفتى، وجمع بينهما القصر الجمهوري بعد ذلك، فالبرادعي جرى تعيينه نائباً للمؤقت، والمتهم بالقتل عين مستشاراً أمنياً لذات "المؤقت"، ثم كان الشعار لتبرير الجريمة، لقد باعنا الإخوان في أحداث "محمد محمود"، مع أنهم تحالفوا مع القاتل في "محمد محمود"!
تذكر تفاصيل يوم التنحي وعلى طريقة "الفلاش باك"، يمكن أن يوقف "المناحة" التي نصبت في هذا العام!

لقد كنت من الآلاف الذين ذهبوا للقصر الجمهوري لحصاره في يوم الجمعة 11 فبراير 2011، لحمل مبارك على التنحي، وكنا مدفوعين بحالة من اليأس هائلة، فقبل غروب شمس يوم الخميس، جاء ضابط في الجيش للميدان بملابسه الرسمية، ليبشرنا بأن "الرئيس" سيلقي خطاباً بعد قليل، "وقد يتنحى"، وعندما وجد البهجة ارتسمت على الوجوه، عاد ليقول إنه لم يقطع بأمر التنحي ولكنه يقول "قد"، ومع ذلك فإن صديقاً محامياً يمتلك عاطفة جياشة، اتجه إلى حيث قرص الشمس، الذي بدأ في الانسحاب في هذا اليوم، ورفع يده للسماء وهو يقول "أحمدك يارب.. يا ما أنت كريم يارب"، وسالت الدموع على وجنتيه، وعندما سألت صديقاً محامياً أيضاً، كان يقف معنا عن سبب هذه الحالة، وصف سلوك المبتهل بما أضحكني في هذه الشدة، ولم نكن نعرف أن هذه الحالة الوجدانية ستكون شعار المرحلة في وقت لاحق، وأن عاطفياً سيطفو على سطح الحياة السياسية هو عبد الفتاح السيسي!

غادرنا الميدان إلى إحدى مقاهي البورصة القريبة، وبعد قليل كان المئات تزدحم بهم المقاهي المتجاورة، أمام الشاشات في انتظار "خطاب مبارك"، وفي انتظار أن يعلن التنحي، مع أن الضابط أكد على "قد".

 عدة ساعات مرت "في انتظار الفرج"، وتم إذاعة خبر بصورة، عن اجتماع للمجلس العسكري، ولأن الغريق يتعلق بـ "ٌقشاية"، فقد ذهبنا نحلل معنى عدم حضور مبارك للاجتماع وهو القائد الأعلى للمجلس، وكل التحليلات كانت تتعلق بالأمل، لقد كنا شهوداً على مؤامرة القوم على الثورة منذ اليوم الأول، ومع ذلك فكنا عقب كل درس، ننساه، ونروج لموقف الجيش المنحاز للثورة!

في نهاية يوم 28 يناير، تم استقبال مدرعات الجيش القادمة بحفاوة بالغة، وبعد قليل تأكدنا من أنهم نزلوا بقرار من مبارك، لتقديم المؤن والذخيرة للشرطة المنسحبة، وتم الرد على ذلك بقيام بعض الشباب بإحراق عدد من المدرعات، وفي الصباح عدنا مرة أخرى إلى الحديث عن أن الجيش لن يسمح لمبارك بقتل الثوار، وشاهدنا المدرعات تفسح الطريق لدخول الغزاة في يوم موقعة الجمل، وفي اليوم التالي نسينا أيضاً هذا!

في يوم موقعة "الجمل" سلم الثوار إلى الجيش عدد (220) من الشبيحة وفي اليوم التالي وجدناهم أمامنا بأسلحتهم البيضاء يحاولون الإغارة مرة أخرى على الميدان، لكن أيضاً نسينا هذا، وخضعنا لحالة الحب العذري!

في نفس اليوم، بدأت مدرعات الجيش في التحرك داخل الميدان لتضييق الخناق على الثوار، ولم يوقفها سوى قيام الشباب بالنوم تحت عجلاتها، ومع ذلك نسينا ذلك!

كان ضباط الجيش الذين يأتون للميدان لا يتحدثون عن مبارك إلا بكل احترام، ولا ينطقون اسمه إلا مسبوقا بـ "الريس"، أو "الرئيس"، أو "سيادة الرئيس"، ومع ذلك كنا نعتبر أن هذا ليس مقصوداً ولكنه من تأثير "التربية العسكرية"!

بعد طول انتظار ظهر مبارك، وخطب وقال إنه باق، ولن يغادر، وأن هناك مؤامرة غربية تدفع في اتجاه تركه للحكم لتعم الفوضى لكنه لن يستجيب لها. وإزاء هذا فان جالسة  بالقرب منا انفجرت عينيها وسالت الدماء منها.

 غادرت المقهى، صامتاً لم أستأذن الأصدقاء في الانصراف، وسرت على قدمي واخترقت ميدان التحرير، صامتاً وواجماً، كانت هناك هتافات ضد الخطاب، وهناك من يخطب فوق المنصة، وكان صوته مسموعاً، لكني لم أعرف ماذا يقول؟، كنت أنظر في الأرض وأنا في غاية الإحباط!

بعد أيام قيل لي أن "وائل غنيم" عقب انتهاء خطاب مبارك صعد على المنصة في الميدان، وقال إن الثورة انتصرت ويجب مغادرة الميدان، لكن الشباب أنزلوه وطردوه. وإلى الآن لم اهتم بالتحقق مما قيل لي!
ووصلت إلى "كوبري قصر النيل"، ولا أعرف كيف وصلت إلى منزلي، لكني في العادة  في كل يوم أمشي على قدميي، فإذا وجدت سيارة في طريقي، استقلها إلى أقرب نقطة افتراق، وأكمل مشياً وركوباً، فقد كان هناك حظر تجول، وهناك خروقات له!

في يوم الجمعة 11 فبراير، كان قرار كثيرون بدون اتفاق هو التظاهر أمام القصر، ذهب الآلاف إليه سيراً على الأقدام ولمسافة تزيد على الخمسة عشر كيلو متر!

قبل ذلك، كانت الأصوات التي ترتفع بترك الميدان إلى القصر الجمهوري، تتهم بأن من يقف وراءها مؤامرة أمنية!

كان أحد المصريين في باريس قد تعرفوا علي من القراءة لي في جريدة "القدس العربي"، من ضمن الذين يعتصمون أمام السفارة المصرية في العاصمة الفرنسية، يتصل بي هاتفياً، ويطلب مني أن أقود الدعوة للقصر الجمهوري، ويقولوا قد يتجاوز النظام مظاهرات التحرير، وينسى ما فيه، ولو اعتصمنا عشر سنوات، وبالفعل كان كلاما يتردد في إعلام السلطة قريباً من هذا، للتقليل من قيمة الاعتصام في التحرير، وأنه لا يقلق النظام، لكن قلت في إحدى المرات لصديقي بعد ذلك، إن أحداً لن يستطيع أن يجهر برأيه هذا وإلا اتهم بأنه دسيسة!

اليأس هو من دفع الآلاف للذهاب زحفا إلى القصر الجمهوري، ولم يكن اليأس وحده هو الذي جعلنا نقبل بالدنية من ثورتنا، على النحو الذي سأوضحه في مقال يوم الجمعة. 

أضف تعليقك