• الصلاة القادمة

    الفجر 04:23

 
news Image
منذ ثانية واحدة

رغم كل أشكال التشابه والارتباط، لا أظن أن هناك علاقة بين بكاء السيسي، والذكرى السادسة لرحيل مبارك.

بالأمس بكى السيسي في مشهد ملغز، لرجل يحتاج لحجر رشيد لفك طلاسم شخصيته المعقدة، وغدا يحل آخر أيام العام السادس لمصر دون مبارك الأول، بعد أن وقعت في أسر مبارك الثاني.

عندما ينتصف الليل يكون العام السادس قد رحل زمنيا، لكنه يبدو وكأنه مزروع في حياتنا، بما تركه من ذكريات السكين المنتشية بدمنا النازف بطول ستة أعوام.

المؤكد أن الذي رحل في 11 شباط/ فبراير 2011، هو مبارك الرجل، و"الأسرة"، لكنه لم يأخذ معه شيئا من عالمه، من نظامه، من منطقه، من عناده، من قسوته، من فساده، من روحه، من دمه، من ظله المتمدد بطول وعرض البلاد!!

كل شيء بقي مختبئا، في ثنايا نظام، شن ضد الثورة، ثورة، سبقها بحملة انتقام، وتشويه، وتفريق، وشيطنة، وتفريغ من محتواها، وقادتها، وأهدافها!!

في 11 شباط/ فبراير 2017، نشعر أن الزمن هو الشيء الوحيد، الذي يتحول الحاضر منه إلى ماض، فتتداخل كل الصور، والمعاني، ليصبح الحصاد صفريا، وأحيانا دون الصفر بكثير.

أقسى الهزائم، هزيمة الأحلام، وها هي أحلامنا تمضي بعد ستة أعوام، مكسورة، مفرغة، مشطورة المضمون، والمعنى، كابوسية الملامح.. عندما نرى شعبا يئن، ورئيسا يبكي!!

لم أعرف في 52 عاما (هي كل عمري) حزنا شخصيا وعاما كالذي عرفته في هذه الأعوام.

كأفلام الأبيض والأسود، انتهى فيلم "مبارك" بنهاية سعيدة. وما إن نزلت كلمة "النهاية" حتى بدأ مسلسل من الأحداث غير السعيدة!!

عندما كنت أشاهد أفلام الخمسينيات والستينيات، التي تنتهي كالعادة بزواج البطل بالبطلة، كنت أسأل نفسي في طفولتي: وماذا بعد؟! ماذا بعد المشهد السعيد؟! هل تمتد ظلال سعادة المشهد الأخيرة لباقي أحداث الحياة؟! أم إن السعادة ستتبدد على أرض الواقع؟

11 شباط/ فبراير 2011، كان هو النهاية السعيدة، لفيلم "أسود في أسود" استمر عرضه 30 عاما، لكننا لم نسأل أنفسنا ونحن نلملم أوراقنا، ونرحل من الميدان: ماذا ستحمل لنا الأيام والأحداث؟ لم نسأل أنفسنا بعد أن نظفنا الميدان: متى سنضطر مجددا للعودة إليه، لننظفه بمزيد من الدماء الطاهرة؟

نزيف الأيام الذي استمر ستة أعوام، صاحبه نزيف لأحلام مشروعة بتغيير حقيقي، يمتد لمفاصل النظام القديم، ووجوهه، وينعكس على حياة الناس إيجابيا.

لقد رحل شاه مصر، ولم يأت بعد الخميني من المنفى، بل تم نفي وعزل كل من كان طرفا في خلع الشاه أو خصما حقيقيا له.. خلّف شاه مصر وفرعونها هامانه؛ ركنا من أركانه!!

رحل مبارك، ولم نخرج من عباءة مبارك وأهله واختياراته.

رغم التشابه الشديد بين مبارك والسيسي، إلا أن هذا لا يعني التطابق بين الرجلين، فالمغايرة الحقيقية بين مبارك "الأول" ومبارك "الثاني"؛ أن مبارك الأول كان أقل قدرة على الأداء التمثيلي، والتأثير العاطفي.. كان جامد الملامح، بارد المشاعر، بينما مبارك الثاني يغرقنا بدموعه، وبلاهة ابتسامته، وضحكاته الهستيرية.

وتعليقا على مشهد بكاء السيسي، في لقاء له الخميس 9/2/2017، سألني صديق على "تويتر": لماذا يبكي السيسي؟! وكيف نفسر تلك الدموع التي انفجرت فجأة بعد أن انحبس صوت الرجل؟ 

فكرت كثيرا قبل أن أرد على السؤال السابق، فالإنسان - بالنسبة لي – هو مجموعة من الأوراق الملونة والمبعثرة، لا يمكن أن تقرأها دون أن تمسك بالخيط الرفيع الناظم لهذه الأوراق، بما يفسر الأفعال والانفعال.

وهنا لا بد أن نسأل في البداية، هل هذا الانفعال "صادق"؟ هل هو حقيقي؟ أم مفتعل ومصطنع على طريقة صناعة "اللقطة"؟!

هل يبكي إنسان على متاعب الناس، وأزماتهم الحياتية اليومية، ولا يشعر بالألم، أو الخجل والندم، وهو يأمر بقتل آلاف من هؤلاء الناس، واعتقال عشرات الآلاف منهم، ويروّع أسرهم، ويسوّد حياتهم، لمجرد أنهم يخالفونه الرأي، أو الموقف السياسي؟

هل يمكن أن يجتمع النقيضان؟! كما وكأنك تقول ثلج ساخن!!

أضحكني هاشتاج ساخر على تويتر تعليقا على المشهد ذاته (#دموع_في_عيون_بلحة)، وأعتقد أن التعبير الأصح هو (#دموع_في_عيون_وقحة)، فالعيون التي لا ترى الحقيقة، وتصطنع الانفعال بالنتائج، وتتعامى عن الأسباب التي أدت لهذه النتائج، هي عيون وقحة.

عندما تسترجع مشهد بكاء السيسي"المفاجئ" على الهواء، وعدم حذف هذا المشهد، عندما تم إعادة بثه على القنوات المصرية، يُدخل إليك الشك فى مصداقية المشهد كله، ويترسخ لديك هذا الإحساس، عندما تجد أن الرجل كان في حالة ثبات انفعالي كامل (قبل وبعد هذا المشهد)، الذي يبدو أنه مقصود بذاته.

البكاء الطبيعي لا بد أن يأتي في سياق متصل بهذه الحالة، أما البكاء المفاجئ، فله أسباب عضوية أحيانا، أو نفسية في معظم الأحيان، فهو أحد أعراض بعض حالات الاكتئاب المزمن، وكذلك اكتئاب ما بعد الولادة، وما بعد الجراحات الكبرى؟ فهل يحكم مصر رجل مريض بالاكتئاب؟ وما أثر ذلك على رؤيته وقدرته؟! وعلى الناس؟!

أميل إلى أن دموع السيسي ليست متولدة عن حالة شعور بالألم، الذي هو صانعه، ولا متولدة عن "ندم" لا نرى دلالات عليه، ربما تكون متولدة عن حالة اكتئابية بسبب الفشل الذي قاد البلاد إليه! ربما تكون بفعل العجز عن التماس سبل للخروج من المأزق السياسي والاقتصادي الذي وصلنا بفضله إليه؟

 ربما يكون مشهدا مجردا من كل منطق أو سبب غير قدرة الرجل على التمثيل والتأثير العاطفي، وهو الشيء الوحيد الذي يميّزه عن مبارك الأول، الذي رحل في مثل هذا اليوم منذ ستة أعوام، والذي لم نسمع يوما أنه بكى، إلا يوم رحيل حفيده محمد علاء، والذي دخل بعدها في حالة اكتئاب لم تمكنه من أن يرى كل ما كان يحدث حوله من أحداث، ومتغيرات أدت لانفجار الثورة.

يسألني البعض، لماذا لم يهرب مبارك في يوم 11 شباط/ فبراير 2011؟! لماذا لم يسع لتفادي مسار العقاب، والمحاسبة على ما فعله في سنوات حكمه؟

لا أحسب أن دافعه كان فرط وطنية، أو ثقة في مسار الأحداث، وهو الرجل المعروف بالشك في كل الناس، وكل الأشياء.

بل السبب أن الرجل كان غارقا في اكتئاب لم يره أحد، إلا من هم حوله، الذين حرصوا على عزله عن الناس والدنيا في محبسه الأول في شرم الشيخ، حتى سقط في 11 شباط/ فبراير منذ ست سنوات.

وربما يكون الاكتئاب المرضي هو أيضا التفسير الأقرب للسؤال: "لماذا يبكي السيسي؟". 

أضف تعليقك