• الصلاة القادمة

    الفجر 04:23

 
news Image
منذ ثانية واحدة

الصفقة الخطرة التى يريد الرئيس الأمريكى إتمامها مع العالم العربى تثير الانتباه وتستدعى أقصى درجات الحذر.

(١)
نشرة أخبار المشرق العربى أصبحت ذات طبيعة مختلفة منذ تسلم الرئيس الأمريكى دونالد ترامب منصبه فى ٢٠ من شهر يناير الماضى. منها مثلا أن موضوع نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس خفتت نبرة الحديث عنه، رغم أنه ظل مثيرا للغط طوال الأسابيع التى خلت، منذ أدرجه الرئيس المرشح ضمن وعوده وأولوياته. وكانت المفاجأة أن قرار «التريث» فى الموضوع اتخذ بناء على نصيحة إسرائيلية. على الأقل فذلك ما ذكرته صحيفة «هاآرتس» فى عددها الصادر فى ٢٩/١، حين نقلت عن مارك تسيل رئيس فرع الحزب الجمهورى فى إسرائيل قوله إن تل أبيب «ضغطت» على الإدارة الأمريكية لتأجيل نقل السفارة بسبب المخاوف التى أثارتها إسرائيل بناء على التحذيرات التى تلقتها تل أبيب من مغبة اتخاذ تلك الخطوة، وهو ما عبر عنه الجنرال آفى بنياهو الناطق الأسبق بلسان الجيش، الذى قال من شأن النقل أن يؤدى إلى تفجير الأوضاع الأمنية فى الضفة، التى قد تفضى إلى إطلاق انتفاضة ثالثة. وذكرت «مجلة «نيوزويك» نقلا عن مصادرها أن الرئيس الأمريكى لم يستبعد عملية نقل السفارة، وإنما هو أجلها فقط. خصوصا أنه يسعى لما هو أبعد وأهم، إذ يتطلع إلى خطة أكثر طموحا تتمثل فى إحياء عملية سلام «الشرق الأوسط الكبير». ولأجل ذلك فإنه سيسعى إلى عقد اتفاق سلام بين إسرائيل وبعض الدول العربية، وليس بالضرورة بين إسرائيل والفلسطينيين.
هذه النقطة الأخيرة استوقفتنى، لأنها ذكرتنى بما سبق أن قرأته بخصوص تقرير قدمته الرباعية العربية للرئيس الفلسطينى محمود عباس قبل انعقاد مؤتمر فتح الأخير، إذ دعته إلى إنهاء الانقسام داخل حركة فتح (بضم محمد دحلان إلى اللجنة المركزية). وذكرت أنه إذا لم يستجب لهذه الدعوة، فستتولى كل دولة التعامل من جانبها مع الفلسطينيين ومجمل القضية طبقا لحساباتها الخاصة. وقد وجدت صدى للفكرة ذاتها فيما نشره أخيرا أحد الباحثين المصريين المقربين من الأجهزة المعنية، حين طرح فكرة إقامة تحالف استراتيجى بين مصر والأردن وإسرائيل تحت رعاية الولايات المتحدة.

(٢)
الرسالة التى نقرؤها فى تلك الإشارات تتلخص فى أن الأجواء الراهنة لم تؤد فقط إلى تراجع أولوية القضية الفلسطينية وغض الطرف عن مسألة الاحتلال، ولكنها أفضت إلى تواصل مباشر بين إسرائيل والدول العربية قفزا فوق القضية بمختلف عناوينها، وهو ما أصبح المسئولون الإسرائيليون يتحدثون عنه علنا بصورة مباشرة أو غير مباشرة، فرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ما برح يتباهى بأنه على تواصل مستمر مع الزعماء العرب، وأن إسرائيل أصبحت ضمن محور الاعتدال العربى، الذى أدركت دوله أن عدوها الحقيقى هو إيران والإرهاب. وهما نفس ما يؤرق إسرائيل. ومن المفارقات فى هذا الصدد أن نتنياهو عاتب مسئولين فى الاتحاد الأوروبى الذى يتبنى موقفا ضد الاستيطان ويميز المنتجات الإسرائيلية القادمة من المستوطنات باعتبارها مستوردة من مصادر غير مشروعة لا يعترف بها القانون الدولى، ومما قاله لأولئك المسئولين أنه يتعين عليهم أن يظهروا لإسرائيل ذات «التفهم» الذى يبديه لها جيرانها العرب، الذين كانوا أعداءها التقليديين.
يذكر فى هذا الصدد أن موشيه يعلون وزير الأمن السابق ذكر خلال مشاركته فى مؤتمر مركز أبحاث الأمن القومى أن المعسكر الأكثر أهمية الآن بالنسبة لإسرائيل هو ذلك الذى تقوده المملكة العربية السعودية، وأن العلاقة بين إسرائيل وبين دول عربية عديدة لم تعد كلاما فى الهواء، لأنه ترجم إلى أفعال على الأرض. وردد الفكرة ذاتها نتنياهو على هامش مؤتمر دافوس الأخير حين وصف السعودية بأنها حليف وشريك. فى هذا الصدد ذكر دورى جولد مدير عام وزارة الخارجية السابق أنه بات بوسع إسرائيل الآن إجراء اتصالات مباشرة مع كل الدول العربية تقريبا.
فى هذا السياق بثت وكالة أنباء «بلومبرج» الأمريكية ذائعة الصيت تقريرا مستفيضا فى ٥/٢ عن التعاون التكنولوجى والاستخبارى بين إسرائيل وبعض الدول العربية، وخاصة دول الخليج. وذكرت فى التقرير الذى بثته الإذاعة العبرية أن ذلك التعاون يشهد ازدهارا بعيدا عن وسائل الإعلام. وضربت الوكالة مثالا على ذلك بالشركة التابعة لرجل الاستخبارات الإسرائيلى السابق شموئيل بار (٦٢ عاما) التى تساعد السلطات السعودية على اكتشاف التهديدات الإرهابية المحتملة، من خلال متابعة الشبكات الاجتماعية على الإنترنت. وكان الرجل الذى قضى ٣٠ عاما فى المخابرات الإسرائيلية قد تخصص فى تعقب التنظيمات الإرهابية وقام بتحليل الكلمات والرموز التى تستخدمها، وأنشأ شركة لهذا الغرض قامت ببيع خدماتها إلى أجهزة الشرطة والمخابرات فى العديد من الدول. وقد صرح للوكالة الأمريكية بأنه تلقى اتصالا من أحد أفراد الأسرة الحاكمة فى السعودية للإفادة من خدمات شركته. وتم الاتفاق على شراء البرنامج المتطور الذى أعدته بحيث أصبح قادرا على أن يراقب يوميا ٤ ملايين حساب «تويتر» و«فيسبوك»، وهو ما أقدمت عليه دول خليجية أخرى. إلا أن أغرب ما قيل فى هذا الصدد أن الوزير الإسرائيلى أيوب ألقرا (من الطائفة الدرزية ومن حزب الليكود ويعرف بأنه من أشد المقربين إلى نتنياهو) صاحبنا هذا ادعى يوم ٥/٢ الحالى فى حديث له إلى القناة الأولى الإسرائيلية أن السعودية ستوجه دعوة رسمية إلى نتنياهو لزيارة الرياض بشكل علنى، وأن الرئيس الأمريكى هو من سيرتب الأمر. وأضاف أن القضية الفلسطينية بالنسبة للعرب المعتدلين لم تعد مهمة، وأن السياسة الإسرائيلية الحالية تعمل على عقد مؤتمر دولى بمشاركة الدول العربية السنية المعتدلة، وهدفها الاستراتيجى فى الوقت الراهن هو عقد اتفاقيات سلام مع تلك الدول ثم التفرغ بعد ذلك لحل القضية الفلسطينية.

(٣)
القرائن التى بين أيدينا الآن تشير إلى أمور عدة أهمها أن إسرائيل حققت اختراقا واسعا للساحة العربية على نحو أصبح التطبيع فى ظله أمرا واقعا، وأن مقدمات الانتقال من التطبيع إلى التحالف باتت ظاهرة للعيان، وقد لوح بالفكرة فى كتابات نشرتها فى مصر صحيفة «الشروق» مثلا لبعض المحسوبين على الدوائر الرسمية المعنية بالموضوع. فى الوقت ذاته ثمة توافق على تجاوز ملف القضية الفلسطينية، بحيث باتت الأولوية شبه محسومة لصالح الدعوة لمؤتمر دولى تشارك فيه إسرائيل مع ما يسمى بالدول العربية المعتدلة تؤدى إلى عقد تحالف معلن بدعوى مكافحة الإرهاب والتصدى للخطر الإيرانى. وما ذكره فى هذا الصدد تقرير وكالة أنباء «بلومبرج» تؤيده شواهد الواقع ويسوقه الإسرائيليون فى مختلف المحافل، فضلا عن أنه يلقى تأييدا وحماسا من الإدارة الأمريكية الجديدة. والطرح الإسرائيلى يبرر هذه الخطوة بدعوى أن التفاهم مع الفلسطينيين فشل خلال ٢٤ عاما، ولم يعد هناك حل سوى البحث عن تسوية إقليمية مع الدول المعتدلة بعيدا عن الفلسطينيين، وهو ما قد يؤدى فى نهاية المطاف إلى تسوية ثنائية مع الفلسطينيين وقد رشح موقع «دويتشه فيله» الألمانى خمس دول عربية للمشاركة فى التسوية هى مصر والسعودية والإمارات والأردن والمغرب. وفى رأى الإسرائيليين أن الموقف لا يحتمل الانتظار بدعوى أن خطر الإرهاب ماثل للجميع كما أن الخطر الإيرانى بات يطرق أبواب السعودية، فضلا عن تمثله فى دول عربية أخرى.
هذه الخلفية تفسر الكلام الذى نشرته مجلة نيوزويك عن الخطة «الأكثر طموحا» التى تشغل بال الرئيس ترامب، ودعواه المرتقبة لإحياء عملية سلام «الشرق الأوسط الكبير». والتمهيد لذلك بعقد اتفاقيات سلام بين إسرائيل وبعض الدول العربية.

(٤)
أختم بالتنبيه إلى خمس ملاحظات: الأولى، أن الرئيس الأمريكى الجديد الذى عرف بأنه رجل الصفقات أراد بالخطة «الطموحة» التى يتطلع إليها أن يعقد صفقة مع الدول الصديقة له بالمنطقة، بمقتضاها يلقى بثقله فى الحرب ضد الإرهاب ويتضامن معها فى اعتبار الإخوان جماعة إرهابية. كما يصطف إلى جانب التصدى لإيران، شريطة أن تتولى الدول الخليجية تغطية نفقات تلك الحرب، وإذ يقدم ذلك من جانبه، فإنه يتوقع أن توقع تلك الدول اتفاقات سلام مع إسرائيل تمهد لإغلاق ملف القضية الفلسطينية لكى تطمئن إسرائيل وتحقق انتصارها النهائى.
الملاحظة الثانية، أن إسرائيل تتصرف الآن وهى مطمئنة إلى أن ذلك «السيناريو» قادم لا محالة. يتجلى ذلك فى إطلاق حملة التوحش الاستيطانى من خلال إقامة ٦ آلاف وحدة سكنية جديدة، والكشف عن مشروع إقامة شبكة مواصلات عملاقة فى الضفة الغربية تمهيدا لضمها إلى إسرائىل. وإعداد مخطط لمد خط للسكة الحديد يربط بين إسرائيل والأردن فى خطوة للوصول إلى دول المشرق (جيروزاليم بوست ٢٨/١) كما تم الكشف عن خط شاحنات محمل بالبضائع الإسرائيلية يتحرك يوميا من ميناء حيفا إلى الأردن، ومنها إلى الدول العربية.
الملاحظة الثالثة، أننا لا نعفى السياسة الخارجية الإيرانية من بعض المسئولية عن إيصال الأمور إلى ما وصلت إليه، لأن التمدد الإيرانى فى العالم العربى أصبح الذريعة الأكبر التى استخدمت سواء لصرف الانتباه عن الخطر الإسرائيلى أو لطرح فكرة التحالف مع إسرائيل للتصدى لذلك التمدد.
الملاحظة الرابعة، أن المخططات المرسومة أسقطت فكرة حل الدولتين، كما أنها تفترض ثبات الخرائط الراهنة فى الساحة الدولية، وذلك ليس مقطوعا به. كما أنها تتجاهل رد الفعل الفلسطينى بل وتعتبر أن الشعب الفلسطينى إما أنه غير موجود وإما أن القيادة الراهنة فى رام الله قامت بإخصائه وأشركته معها فى الانبطاح والتنسيق الأمنى مع إسرائيل، رغم أن التجربة أثبتت أن ذلك وهم كبير.
الملاحظة الخامسة، أنه يراد لتلك النهاية الدرامية للقضية الفلسطينية أن تتم فى ذكرى مرور مائة عام على إطلاق وعد بلفور فى عام ١٩١٧. وتلك من مفارقات الأقدار وسخرياتها.

أضف تعليقك