كالعادة.. تدق الساعة المعلقة في صالون بيتنا برتابة لتعلن انتصاف الليل إيذاناً بميلاد نهار آخر، ينفث الحائط العتيق زفراته غاضباً فالساعة لا تأتيه بجديد، لكن حلقة السكوت هذه كسرت فجأة ومن بعدها لم يهدأ لبيتنا حال.
ذات ليلة من يناير 2011 ودعت الأم خمسة فتيان زحفوا مع الشعب إلى ميدان التحرير قبل أن يغلق الأمن الطرقات ويقطع سكك القطار. يمَّموا وجوههم شطر العاصمة حيث سبقهم أخوهم الأكبر الموجود هناك بحكم عمله صحفياً في جريدة المصري اليوم.. 18 يوماً لم يغادر أحد الميدان ولم تغادر الأم محراب الصلاة إلا لمتابعة ما يقوله التلفاز، يكاد ينخلع فؤادها وهي ترى موقعة الجمل وبعض من تعرف من أبناء صاحباتها يتساقطون، الله كتب النجاة والظفر لأبنائها وعادوا إلى حضنها في يناير بعد تنحي مبارك.. لكن هذا الشهر المفتاحي لم يكف عن بيتها ما هو مقدر ومكتوب.
يأتي يناير، تلفح برودته عتبة دارنا، ولا يهدئ عاصفته إلا أطباق العدس تبعث الدفء من بين أصابع أمي.. تطعم 7 صبية تراصوا كالعقد وازدادوا اثنتان لينعقد ختام المسك.
يؤذن الفجر فيدلف أبي إلى غرفة الشباب قاطعاً الشخير منادياً على رأس كل شاب، الصلاة خير من النوم، عصاه يتوكأ عليها ويوقظ بها من تلكأ، يسبق إلى المسجد ويتبعه الرجال بعد أن توصيهم الأم بالتفرق بين المساجد وألا يدخلوا من باب واحد.
ما بين سفر واستقرار، مضت حياتنا هادئة لم يعكرها إلا أنني أديت الخدمة جندياً في الجيش المصري فاسترق أخي الذي يصغرني الفرصة وخطب من ارتضاها لدينه وخلقه.
أشعل في قلبي غيرة من تأخر، فعاقبته بأن خطبت من أحببت وكان توفيق الله قرين بركة أهلها الأماجد فعجلت بالزواج قبل عبد الله لتطلق أمي أول زغرودة سمعتها مدينتي طنطا ما بين لابتَيها.. ولم تكن آخر الزغاريد.
صارت غربة الدراسة التي فرضت علينا مقدمة لغربة العمل فلم تعرف أمي أقرب إليها من آخر الرجال، يستقبلها على رأس الشارع ويحمل عنها ما حملته من السوق ويضع عنها إصرها والهموم التي كانت عليها، حتى يستأذنها بالتوجه إلى عمله بعد ظهر كل يوم سائلاً: "راضية عني يا أمي"، فتتبعه بالدعوات ما يملأه بُشراً فيمضي إلى حال سبيله.
لم يخلُ بيتنا ليلة من حفيف نعل ذلك المتسلل العائد إلى البيت من محل الملابس الذي يديره متوجهاً إلى الثلاجة بعد منتصف الليل.. تفزع الأم ليتوارى إبراهيم في خجل أن أيقظها "آسف يا أمي.. جعان" تهم بالنهوض فيأبى آخر الصبيان وأخو البنات: "خليكي أنا هسخن الأكل".
تسربل الصغير بالحب وفاض حناناً على أختيه.. غاص في عالمهما واستقرت عنده كثير من فضفضاتهن بعد أن هاجر إخوتهن طوعاً أو كرهاً.
كان إبراهيم مسكوناً بالرحيل، يغني للشهداء ويأسف لتراجع ثورة يناير ولضعف من ظنوا أنهم قادرون على السلطة، ترقب عينه الانقلاب وانفلات أوضاع مصر، شهد المواقع كلها من محمد محمود إلى ماسبيرو، وانتهاء برابعة التي زارها مراراً رغم رفضه الاعتصام فيها ليقينه أن من ذاق الدم استعذبه ة، وستحدث المقتلة ولا يدري المستضعفون علام جمعوا أو لماذا يساقون للذبح، وحين وقعت المجازر انتفض للدم المراق فلم يدع يوماً إلا شهده والرصاص ينهمر بين ساقيه، حتى كان الوداع الأخير.
كان يبشر بيناير، ويرى حتمية النزول في ذكراها الثالثة عام 2014 لأنه يوم عابر للأيديولوجيا ويجسد الحلم، كتب ليلتها على صفحته في الفيسبوك طالباً العفو، وكان قد بات ليلته في القاهرة بعد أن ودع أمه واختطف قلبها خلف الباب الموصد.
في منطقة المهندسين بالجيزة، طفق رصاص الشرطة يحصد الأرواح، يبلغ صداه ميدان المطرية ولم يكد اليوم ينتهي حتى اشتعل الموت شيباً في بضعة وأربعين بيتاً فاضت أرواح أبنائهم على يد الشرطة العائدة للانتقام من الذكرى وتأديب من حلم بها.
إصابة في البطن مزقت الحشا وفرقت الطحال وهتكت الكبد في إبراهيم، على دراجة نارية حاول من حوله إنقاذه فرفض مستشفى خاص دخوله للعمليات، كان أجل الله قد سبق، فاستلقى على طاولة المشرحة يتمتم: "اللهم إني أسألك الجنة وأعوذ بك من النار".
يا لقابيل المصري قد قتل هابيل وشرب من دمه، لحظات وشاع الخبر: "إبراهيم استشهد".
هل أتاك حينها نبأ الحزن إذ تسور المنازل؟
إذ دخل على قلب أمي ففزعت منه.. اعتصر القلب وأتبعته بالدمع المسلم بالقضاء، تتمتم أمام الكفن المحمول لها على الأعناق: "مع السلامة يا إبراهيم.. رب إني وهبت لك ما في بطني محرراً فتقبل".
راح أصغر الولد وأحنهم على أم. استكثرت مصر على الوالدة أن تفرح بالولد الشقي الضحاك الذي سألها قبل يومين أن تخطب له فلم تكد، ابتسامته في الأبيض آخر ما علق بالعين وحفظه القلب.
اليوم تحل ذكراه الثالثة.. يطرق الصمت باب أمي وحيدة ويدخل بلا استئذان خاطفاً لهب المدفأة، ناثراً في شقوق الجدار خوفاً ولوعة تقطر مع زخات المطر، لكن الساعة المعلقة على الجدار تواصل دقاتها برتابة.
أتساءل في غربتي ولم أهنأ بوداع إبراهيم إلى مثواه: هل أستعيد حق أخي و حلمه؟ هل لا يزال يناير والثورة فعل حاضر مرفوع على الهامات؟ أم أن السياسة لونت الدم وفرقت الرفاق ؟ وصارت ذكرى الثورة ألماً يحين أوانه كل عام؟
لا أملك الجواب، ما أراه اليوم يضيق به صدري.. ولا ينطلق به ينايري، أقصى ما أستطيعه أن أحفظ قدر المستطاع رباط بيتي، أقص على أبنائي أحسن القصص عن الحلم المشروع، عسى ربي أن يأذن بيوم نكمل فيه ثورتنا المغدورة.
كنا سبعة على نبع أمي.. جاء الشهيد صرنا ستة.. فمتى تأتي يا يناير لنذهب معك؟
الله أعلم.
أضف تعليقك