(قصة قصيرة - كتبتها في زنزانة 11 بسجن الزقازيق العمومي).
كان سعيداً وهو يستمع لصوت نباحه الذي يشق جوف الليل البهيم في تلك الليلة الشاتية قاسية البرودة، وهو يحمل في صندوقه الخلفي عدداً من قيادات المعارضة المصرية إلى مصيرهم المجهول، بعد يومين من بدء التظاهرات الشعبية ضد تغوُّل الداخلية وتسلّطها على الناس وظلمها القاسي، كانت ليلة الثامن والعشرين من يناير لعام 2011 ليلة قاسية على كثير من البيوت التي وقف أمامها منتظراً لاحتضان أبنائها للمجهول.
كان معجباً جداً بصوت سارينته التي ترعب الجميع ويفر أمامها الناس، ويختفي المجرمون، كان يشعر بنشوة من فرط قوته بلونه الأزرق الداكن، وذلك النسر المجنح على جانبَيه، حمل في باطنه عتاة المجرمين كما حمل الكثير من المظلومين، في الوقت الذي لم يتورع فيه عن حمل معارضي النظام لمصيرهم، لم تتحرك فيه شفقة أو عاطفة، كان يؤدي مهنته ومهامه العديدة بمهارة ودقة.
في الوقت الذي كان البلد فيه على حافة الغليان، لم يتوقف كثيراً ليسلط مصابيحه القوية على هؤلاء الذين انسلتوا من جوفه إلى السجون، وعاد مرة أخرى بقوته وجبروته التي اكتسبها من قوة أصحابه رجال الشرطة الأقوياء المدججين بالسلاح، انطلق في مهمة منع عدد من المتظاهرين من عبور كوبري قصر النيل للالتحام بزملائهم في ميدان الثورة.
انطلق يشق صمت الليل بعوائه الشديد، وهو يشعر بكل هذا الزهو والقوة، واثق الخُطى يمشي ملكاً، كانت مهمة تقليدية قام بها كثيراً، فقد كان يشق صفوف المتظاهرين في السابق ويفرق جموعهم ويدوس بعضهم دون رحمة، كان يبتسم بسخرية من هؤلاء الذين تجرأوا على الوقوف أمام أسياده، اشتد في سرعته ليبث في أوصاله بعض الدفء في هذه الليلة، وانتبه لأول مرة أن هذه الليلة مختلفة عن سابقاتها مظاهرة ليلية ضخمة.
كان قد وصل لمدخل كوبري قصر النيل وجد زملاءه في حالة تحفز يزأرون في قوة ويشعلون مصابيحهم باتجاه المتظاهرين الذين احتشدوا عبر الكوبري لمنع أسياده من العبور لفض ميدان الثورة، هو كعادته لم يهدأ، تحرك في رعونة حتى يقتحم على المتظاهرين مكانهم بالتأكيد سيفرون أمامه، فتحوا فقط الطريق أمامه، فاندفع كالفارس يشق الصفوف حتى توقف وسط طوفان بشري لم يستطِع أن يتحرك فيه، وسط ما سمع عنه ميدان الثورة، ولأول مرة يشعر بالخوف والقلق، إطاراته تدور ولا يتحرك، فاكتشف أنه بين الثوار قد رفعوه عن الأرض، بحث عن أسياده لينجدوه فلم يجد منهم واحداً، الجميع هرب بجلده وسقط هو في أيدي من اعتبرهم طوال حياته أعداء أسياده وأعداء الوطن.
بدأ يعوي بصوت هذيل خافت ذليل، يتمسح في الثوار ليتركوه فلا ذنب له، لقد كان مغرراً به لم يكن يفهم، اتركوني، ارحمونى. فتح كشافاته فرأى شاباً يحمل إناءً به كيروسين رائحته واضحة فهو يشربه كل يوم، هل هذه شربه الوداع ماذا سيفعلون به؟ تناثر الكيروسين وبعده البنزين، صرخ بشدة أنا أستخدم الماء مع الصابون وليس البنزين في الاستحمام.
حتى هذه اللحظة لم يستوعب مصيره المؤلم، دقائق قليلة وبدأت النيران تسري في أوصاله ليس في داخل محركة فقط، ولكن في جسمه كله.
انتفض البوكس الشُرطَىُّ بشدة من لهيب النيران الذي يأكل لونه الأزرق الداكن الذي طالما افتخر به، طار النسران المجنحان من على جانبَيه، لم يحاول أسياده إنقاذه، هو من يدفع الثمن الآن، فتح كشافاته فأبصر ذلك الشاب الذي وقف ينظر إليه باحتقار، إنه يعرفه، نعم يعرفه لقد حمله قبل ذلك مرة بل مرتين، ثلاثاً.. ليس يذكر تحديداً.. لماذا يقف هكذا ساخراً؟ ماذا فعلت له لقد حمله بطني الدافئ من بيته في منتصف الليل مرات عديدة لماذا لا يأتي لإنقاذي؟.. لماذا؟! كانت الكشافات مشتعلة.. اقترب الشاب منه وابتسامة ساخرة تلوح على شفيته.. آه سينقذني.. يا له من شاب صالح.. آآه.. ماذا تفعل يا ابن...؟!
كان الشاب قد رفع قطعة حديدية وهوى بها فوق الكشاف الأيمن، صرخ البوكس لماذا؟ لماذا؟! ماذا فعلت بك؟! لم يجد رداً إلا ضربة أخرى أكثر قوة وشدة من سابقتها على الزجاج الأمامي الذي تحطم بشدة، أصابه دوار شديد مع النيران المتزايدة والبنزين المتساقط عليه من كل مكان، توقفت به عجلة الزمان واسترجع ذكرياته في شريط سينمائي متواصل منذ أن دخل الخدمة في وزارة الداخلية منذ خمسة عشر عاماً.
كان أول خدمته في شرطة الآداب، كان يخرج في حملات كثيرة لمداهمة أوكار الدعارة المقننة بشكل ودي مع نظام لا يحارب الرذيلة بقدر ما يحارب الفضيلة، في البداية كان سعيداً بالحسناوات اللاتي يدخلن جوفه كل ليلة مومسات وراقصات على كل شكل ولون، كثيراً ما كان جوفه مقراً لممارسة الفُجر والرذيلة من أسياده دون أن يعترض، على العكس كان سعيداً بهذا الفحش، كان بعد كل عملية يحصل على فرصة جيدة للنظافة والاستحمام للتطهير من نجاسة صمته ونجاسة أسياده.
لم يستمر به الحال كثيراً في هذه الإدارة، فمنها إلى إدارة المرور التي كان يقف فيها يقطع الطريق ليجمع أسياده إتاوات كثيرة لا حصر لها بسبب وبغير أسباب، ومنها إلى أقسام الشرطة المختلفة، كم حمل في جوفه المرعب بشراً متنوعين لم يتساءل يوماً هل هم مظلومون أم مجرمون؟ ما ذنبهم؟ّ ما جريمتهم؟
كان يعيش حياته بشكل طبيعي، حتى إنه عندما استخدمه سيده وأهانه في تنفيذ طلبات المدام وتوصيل الأطفال المدارس لم يعترض لا بأس من بعض التنازل؛ لكي تستمر الحياة كثيراً ما كان يحمي أسياده ويستخدمونه في البطش والفرعنة وهو كان فخوراً بذلك.
توقفت بالبوكس أفكاره وكانت النيران قد أتت عليه، خضع مستسلماً يريد التوبة والعفو لكن ممن؟!
تفحَّمت أركانه وهمدت حركته.. بدأ نور الفجر يلوح في الأفق، لن يعود لثكنته مرة أخرى، لن ينبح ليرعب البشر مرة أخرى، انسحب الثوار من حوله، وبقي هو مكانه شاهداً على التغيير الكبير الذي حدث في نفوس المصريين، اختفت الذلة والرهبة وحلت محلها العزة والكرامة، وقف وحيداً يرى بعينه الواحدة أشعة الشمس تتسلل من فوق مئذنة عمر مكرم وأصوات التكبير تعلو، وهتاف وحيد يرج أوصال المكان: "الشعب يريد إسقاط النظام".
أضف تعليقك