أربك ظهور الدكتور محمد البرادعي على "التلفزيون العربي"، سلطة الانقلاب في مصر، فتصرفت كفاقد للوعي، أو كالذي يتخبطه الشيطان من المس، وإن شئت الدقة فقل إنها في تصرفها كمن أراد أن يغيظ زوجته فخصى نفسه!
في ذات الليلة، التي بُثت فيها الحلقة الأولى من هذه المقابلة الممتدة، كانت قناة "صدى البلد" تعرض تسجيلات لمكالمات هاتفية للبرادعي، مع الوعد بالمزيد، على نحو كاشف بأن هاتف الرجل كان تحت المراقبة المستمرة من السلطة، ولا يوجد خبر في هذا، باعتبار أن الخبر ليس في أن يعض إنساناً كلب، ولكن في أن يعض إنسان كلباً، ففي زمن مبارك، وعندما كان وزير داخليته "حبيب العادلي"، يظن أن لن يقدر عليه أحد، اعترف بأنه يتنصت على هواتف المصريين، وقال من يخاف لا يتكلم، وهى جريمة كانت تكفي وحدها لإسقاط نظام بأكمله، لأنها تمثل انتهاكا للدستور الذي حمى الحياة الخاصة، وحظر مراقبة الرسائل والهواتف، لكن مصر كانت حينئذ في حالة تماهي مع اللامعقول!
وعندما أذاع "عبد الرحيم علي" في برنامج تلفزيوني، مكالمات مسجلة لبعض المعارضين، لم يمثل هذا غرابة، وإن سعي لتبرئة أجهزة الأمن التي مدته بها، عندما قال إن هذه التسجيلات وجدها أمام بيته، فكان كمن جاء يكحلها فأعماها، فهل مصر مخترقة حد أن تكون مراقبة الهواتف تتم من خارج أجهزة الأمن بالدولة، أو أن تكون هذه الأجهزة تعيش الفوضى، إلى حد أن تكون هذه التسجيلات في حوزة أحدهم ليتصرف فيها تصرف المالك فيما يملك، فيضعها أمام "عتبة باب" عبد الرحيم علي؟!
كما لا يمثل خبراً قيام "أحمد موسي" في برنامجه على قناة "صدى البلد" ببث تسجيلات لمدير مكتب قناة الجزيرة في القاهرة "عبد الفتاح فايد"، ولم يصدقه أحد بطبيعة الحال، عندما أراد أن ينفي أن تكون الأجهزة الأمنية قامت بهذه التسجيلات، وحاول أن يوحي بأن من فعلها هم مقربون من "فايد"!
فليس هناك دهشة في أن تقوم أجهزة الأمن في مصر بتسجيل مكالمات الناس، فقد اعترف بذلك وزير الداخلية، ثم أن هذا من سمات دولة الأجهزة الأمنية!
الخبر، هو ما كشفت عنه التسريبات المذاعة على قناة "صدى البلد" للدكتور محمد البرادعي، أن مكالمات رئيس أركان الجيش المصري نفسه كانت تحت المراقبة، فمن يسجل لمن؟.. إذا كان الرجل الأول في الجيش المصري يخضع هاتفه للمراقبة الأمنية!
يحتاج الأمر إلى معرفة تاريخ هذه التسجيلات، لنعرف الجهة التي كانت تضع هاتف رئيس أركان الجيش، الفريق أول سامي عنان، تحت المراقبة؟!
لقد حدث بعد ثورة يناير، أن تم اقتحام عدد من مقار جهاز مباحث أمن الدولة، وأهمها المقر الرئيسي للجهاز في مدينة نصر، ومقره بمدينة السادس من أكتوبر، والجنين في بطن أمه يعلم أن هذا الاقتحام كان قرار عبد الفتاح السيسي بالتنسيق مع كفيله الروحي المشير محمد حسين طنطاوي، وقد استدعت الجماهير لإضفاء غطاء ثوري على هذا القرار العسكري!
لقد تم حشد الثوار بالمناداة عليهم، بأن هذا الجهاز (سيئ الصيت) يتخلص من أوراق ومستندات مهمة بإحراقها، فتحركت الحشود الثورية إلى هناك، وبقيت المقار الأخرى التي لم يصدر قرار من الجهة الداعية للاقتحام لم يمسسها سوء رغم رمزيتها ومنها مقر الجهاز في "لاظوغلي"، وقد كان ذكر اسم "لاظوغلي" يغني عن ذكر اسم جهاز مباحث أمن الدولة، فهو مرادف له، مع أن "لاظوغلي" هو اسم للمنطقة وللشارع الذي يقع فيه هذا المبنى التاريخي للجهاز التي أطلق عليها اسم "محمد لاظوغلي باشا" وزير المالية، وأول وزير للقوات المسلحة في عهد محمد علي باشا!. وقد أصبح "لاظوغلي" هو اسم الشهرة لمباحث أمن الدولة، كأن تقول لعبد الفتاح، يا "عبدو"!
كان الإعلان عن من له "ملف" يأتي ليأخذه فكرة مغرية، وهناك تعامل ضباط الجيش مع ضباط أمن الدولة بخشونة، وتم ترك أصحاب الثأر للانتقام لأنفسهم بالاعتداء على من عثروا عليهم من الضباط الذين عذبوهم، ليثبت الجيش بهذا الموقف أنه فعلاً من حمى الثورة، وهى الاسطوانة التي كان يتم الترويج لها!
وتم دغدغة العواطف الجياشة للعامة، فكيف وجدوا بمكتب حبيب العادلي وزير الداخلية، جناحا للنوم، عثروا فيه على "ملابس حريمي"، لكن إذا كان قد سمح باستباحة مكتب حبيب العادلي، فإن غرفة واحدة لم يسمح لأحد بدخولها على نحو كاشف بأن القوات الموجودة كانت قادرة على منع الناس من مجرد الاقتراب من المقار لو أرادت، وكما فعلت مع مقر الجهاز في "لاظوغلي"!
هذه الغرفة هى الخاصة بالتسجيلات، وهى الهدف من عملية الاقتحام، فقد كانت هواتف أعضاء المجلس الأعلى للقوات المسلحة تحت المراقبة، بقرار من مبارك، ومن كان يراقبهم هو مبارك، وكانوا يعلمون هذا لكن العين لا تعلو على الحاجب، وقد وجد السيسي وكفيله الروحي طنطاوي، أن الفرصة مواتية بعد الثورة، في غزو هذه المقار والحصول على تسجيلاتهم وملفاتهم، والحصول أيضاً على تسجيلات السياسيين والصحفيين وكل من يحتاجوا ابتزازه والسيطرة عليه في المستقبل، وبهذا الأرشيف بالغ الخطورة شكل السيسي أرشيف جهازه الأمني، الذي حكم بعد الثورة!
فهل تم العثور على الحوار الذي تم بين البرادعي وسامي عنان في عملية الاقتحام هذه، واعتبرها عبد الفتاح السيسي غنيمة حرب؟.. ومن ثم فقد مد قناة "صدى البلد" بها، ضمن تسجيلات أخرى لمحاولة تحجيم تأثير المقابلة التلفزيونية للدكتور البرادعي، التي أربكت سلطة الانقلاب منذ التنويه عنها؟!
الاحتمال الآخر، أن تكون مراقبة هاتف رئيس أركان الجيش المصري، تمت بالاتفاق بين المشير طنطاوي وعامله على المخابرات الحربية عبد الفتاح السيسي بعد الثورة!
فلم تكن العلاقة بين طنطاوي وعنان على ما يرام عندما قامت ثورة يناير، فمبارك كان يحرص دائماً على أن اختيار شخصيات ليست على وفاق مع بعضها للمواقع الكبرى، وعندما قامت الثورة، لم يكن المجلس الأعلى للقوات المسلحة مشكلاً تشكيلاً كاملاً، وكانت أغلبيته بالتالي تحت سيطرة رئيس الأركان، فأعاد طنطاوي تشكيله واستدعي ضباطا متقاعدين وضم قادة لم يكن قد شملهم التشكيل الأخير للمجلس ليحدث التوازن وتكون الأغلبية له، ورغم مبالغة عنان في إثبات الولاء، لكن ظل ما في القلب في القلب، وقد كان السيسي يعمل على أن يستمر الجفاء بينهما ليستحوذ بمفرده على قلب "كفيله الروحي"!
في التسجيلات نقل البرادعي مطلب الثوار لرئيس الأركان، في إقالة حكومة الفريق أحمد شفيق، وإقالة الحكومة تمت في 3 مارس 2011، في حين أن اقتحام مقار جهاز مباحث أمن الدولة تم في سنة 5 مارس 2011، أي بعد الإقالة بيومين، وهذا لا يرجح احتمالاً على الآخر، فقد تكون التسجيلات قام بها جهاز أمن الدولة تنفيذا لتعليمات قديمة لمبارك لم تتغير، وقد استحوذ عليها السيسي باعتبارها غنيمة حرب بعد عملية الاقتحام، كما لا يمنع أن يكون السيسي هو من وضع هاتف رئيس أركان الجيش المصري تحت المراقبة!
ومهما يكن، فنحن أمام خبر يكشف عن أن مصر تعيش أسوأ مراحلها منذ أن حكمها العسكر في سنة 1952، فقد وصل الانحطاط أن يتم وضع هاتف رئيس أركان الجيش تحت المراقبة، وهو تصرف فضلاً عن أنه يمثل إهانة للجيش المصري، إنه كاشف عن أن مصر تعيش في الحضيض بارتكاب هذه الجريمة.
لقد أرادوا الإساءة للبرادعي، فكانوا كالدبة التي قتلت صاحبها. أهذه دولة يُتهم زميلنا محمود حسين باستهدافها؟!
أضف تعليقك