• الصلاة القادمة

    العصر 13:46

 
news Image
منذ ثانية واحدة

من مفارقات الأقدار وسخرياتها أن الرئيس الأمريكى الجديد إذا تراجع عن تعهده بنقل سفارة بلاده إلى القدس فسيكون ذلك راجعا لأسباب عدة، ليس بينها قلقه من الصدى المتوقع فى العالم العربى. (١) ألقيت السؤال على أكثر من خبير ودبلوماسى فى أربعة أقطار عربية، ولم أفاجأ بالإجابة قدر مفاجأتى بالإجماع عليها. كان السؤال كالتالى: ما الذى يمكن أن يحدث فى العالم العربى إذا ما أقدم الرئيس الجديد على تنفيذ وعده؟ ــ نبهت إلى أن وعود الحملة الانتخابية ليست كلها قرارات ما بعد استلام السلطة. وإن مسألة نقل السفارة إلى القدس عادة ما تتردد فى انتخابات الرئاسة الأمريكية لضمان أصوات اليهود، ولكن أحدا من الرؤساء الذين تم انتخابهم لم يستطع الإقدام على تقلك الخطوة لسببين رئيسيين، أولهما أن ثمة قرارا لمجلس الأمن صدر فى عام ١٩٨٠ اعتبر أن نقل السفارة إلى القدس بمثابة خرق للقانون الدولى، كما اعتبر «قانون القدس» الذى أصدره الكنيسيت باطلا ويتعين إلغاؤه. ودعا المجلس ١٣ دولة (أغلبها من دول أمريكا اللاتينية) كانت قد أقامت سفاراتها فى المدينة المقدسة إلى إخراجها منها، وحين نجح اللوبى اليهودى بالولايات المتحدة فى استصدار قانون من الكونجرس عام ١٩٩٥ نص على الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ودعا الرئيس الأمريكى إلى نقل السفارة إليها، فإن صيغة القرار تضمنت ثغرة سمحت للرئيس بتأجيل تطبيقه كل ستة أشهر، وقد استمر ذلك التأجيل طوال العشرين سنة التالية، حيث لجأ إليه كل رئيس تم انتخابه لكى يتحلل مما وعد به. السبب الثانى لعدم نقل السفارة طوال تلك الفترة راجع إلى أن العالم العربى كان له وزن مختلف، كما أن العداء العربى لإسرائيل كان متماسكا إلى حد ما، رغم توقيع الرئيس السادات لاتفاقية «السلام» فى عام ١٩٧٩ (الأردن وقع اتفاقية وادى عربة فى عام ١٩٩٤). الشاهد أن الرؤساء الأمريكيين الذين ساندوا إسرائيل طول الوقت، حرصوا على ألا تكون واشنطن نموذجا للإطاحة بقرارات مجلس الأمن، ثم إنهم وضعوا فى الاعتبار حماية مصالحهم فى العالم العربى والإسلامى. (٢) الأمر اختلف هذه المرة أمريكيا وعربيا، الأمر الذى لا يستبعد معه أن يصدر الرئيس الأمريكى قراره الصادم لنا. تؤيد ذلك الشواهد التالية: < إن الرجل قادم من خارج السياسة، وليس معنيا كثيرا بمختلف الحسابات والاعتبارات والسياسة التى أثرت على مواقف الرؤساء السابقين، ومن ثم فهو على استعداد للإطاحة بتلك الاعتبارات، خصوصا أنه ليكودى الهوى، بمعنى أنه منحاز إلى القوى الأكثر تطرفا فى إسرائيل، وكان ذلك أوضح ما يكون فى اختياره لسفير بلاده لدى الدولة العبرية. وفى حملته على مجلس الأمن بعد إصداره قرار إدانة المستوطنات، وفى دعوته إلى حجب إسهام واشنطن فى ميزانية الأمم المتحدة. وقد تحدثت وسائل الإعلام عن أن الرجل ماض فى الوفاء بما وعد به، وأن واشنطن استقبلت فريقا إسرائيليا قدم لترتيب الأمر مع نظرائهم الأمريكيين، وأشارت إلى أن مقر القنصلية الأمريكية فى القدس سيكون مقرا للسفارة بشكل مؤقت إلى حين تهيئة المكان لكى يكون لائقا «للمقام». < حفاوة أغلب الأنظمة العربية بالرئيس الجديد وحرصها على استرضائه. وذلك واضح فى الترحيب الرسمى به والحرص الرسمى على التعامل معه لسببين أولهما عدم اكتراثه بموضوعات الديمقراطية والحريات وحقوق الإنسان، مع إعطاء الأولوية لملف الإرهاب. وهو ما اعتبر تأييدا لممارسات تلك الأنظمة ومساندة لها، أما ثانيهما فيتمثل فى عدائه لإيران وسعيه لإلغاء الاتفاق النووى معها، وهما عاملان غفرا له فى نظر البعض كراهيته للإسلام والمسلمين. < تراجع أهمية القضية الفلسطينية ضمن أولويات أغلب الأنظمة العربية التى أصبحت غارقة فى مشكلاتها الداخلية، إلى جانب انشغال بعضها بالمعركة ضد الإرهاب، وتركيز البعض الآخر بمواجهة إيران وما تمثله من أخطار تهددها. < اتساع نطاق الاختراق الإسرائيلى للدول العربية، بصورة علنية أو غير علنية إلى الحد الذى دفع إسرائيل إلى الادعاء بأنها صارت جزءا مما سمى معسكر الاعتدال العربى السُّنى فى مواجهة العدو الإيرانى والخطر الشيعى. (٣) كان العالم الإسلامى قد اهتز حين أشعل أحد الصهاينة النيران فى المسجد الأقصى عام ١٩٦٩، الأمر الذى أدى إلى عقد مؤتمر للقمة الإسلامية بالعاصمة المغربية الرباط فى العام ذاته، وأسفر الاجتماع عن إنشاء منظمة المؤتمر الإسلامى (التعاون الإسلامى لاحقا) للدفاع «عن شرف وكرامة المسلمين المتمثلة فى القدس وقبة الصخرة». إلا أن عالم تلك المرحلة اختلف تماما عن الزمن الراهن، وهى الخلفية التى يتعين استدعاؤها للتعرف على الصدى المحتمل لقرار الرئيس الأمريكى الجديد فى حال صدوره. ذلك أننا ينبغى أن نعترف بأن العالم العربى الذى هو قلب العالم الإسلامى تراجع وزنه كثيرا فى المعادلة الدولية، سواء بسبب غياب قيادته وانفراط عقده وخرائطه فضلا عن تعدد محاوره وتباين سياساته، إذ استهلكت طاقته إما فى الحروب الأهلية الداخلية التى تجرى فى إطار القطر الواحد، وإما فى الحروب الإقليمية داخل المحاور المختلفة. للأسف فإن الوهن والضعف الحاصلين فى الجانب العربى يقابلان بعجرفة واستكبار من جانب الإسرائيليين الذين تحدوا الجميع فأقروا تقنين المستوطنات المقامة فوق الأراضى المحتلة فى يوم صدور قرار إدانة الاستيطان، وقرر رئيس وزرائهم «توبيخ» الدول التى أيدت قرار مجلس الأمن، ومعاقبة الدول الأربع التى تمسكت بمناقشة القرار بعد قيام المندوب المصرى بسحبه. وشمل التوبيخ والعقاب وقف المساعدات المقدمة لدولة كالسنغال وإلغاء الزيارات الرسمية التى كان مقررا أن يقوم بها لإسرائيل ممثلون لدول مجلس الأمن، إضافة إلى معاقبة الأمم المتحدة ذاتها من خلال حجب إسهام إسرائيل فى موازنات بعض منظماتها. يزداد الموقف تعقيدا إذا ما تصورنا تداعيات الموقف الأمريكى الذى وعد الرئيس الجديد بأنه سيكون «علامة فارقة» فى تاريخ المنطقة، وأيا كان قدر المبالغة فى تصريحه، فإننا لا نستطيع أن نهون من شأن سياساته إذا مضى فى نقل السفارة، ذلك أن هذا الموقف ربما أصبح بمثابة مقدمة تشجع دولا أخرى على أن تحذو حذو الإدارة الأمريكية. وهو ما لاحظنا مقدماته فى انتقاد رئيسة الوزراء البريطانية لخطاب وزير الخارجية الأمريكى بخصوص المستوطنات، التى كانت بريطانيا قد أيدت قرار إدانتها فى مجلس الأمن. وفى ظل الود الذى يلوح فى الأفق بين الرئيس الأمريكى الجديد والرئيس الروسى فليس مستبعدا أن يتوافق الطرفان على تصفية القضية بمختلف عناوينها، خصوصا أن اللاعبين الدوليين باتوا يتصرفون وحدهم فى مصائر المنطقة مستثمرين حالة الفراغ فيها، يشهد بذلك الاتفاق الأخير بين روسيا وتركيا وإيران بخصوص وقف القتال فى سوريا. (٤) لأول وهلة تبدو الصورة كئيبة ومحبطة خصوصا أن أغلب الأنظمة العربية لن تلجأ إلى أى إجراء حقيقى إذا ما تم نقل السفارة الأمريكية (دعك من بيانات الشجب والتنديد) لسبب جوهرى هو أن تلك الدول باتت حريصة على استرضاء الرئيس الجديد وعدم إغضاب إسرائيل المنتفخة والمتعجرفة. إلا أن الصورة قد تختلف نسبيا إذا وضعنا فى الاعتبار ضعف وزن الولايات المتحدة وتراجع هيبتها بصورة نسبية. وإذا ما راهنا على استقلال قرار بعض الدول الأوربية والأمريكية اللاتينية التى لاتزال تحترم المبادئ ولم يمت لديها الضمير بعد. ومما له دلالته فى هذا الصدد أن الذين تمسكوا بمناقشة قرار إدانة المستوطنات كانوا يمثلون أربع دول غير عربية فى حين أن قرار سحبه كان عربيا. ومن المفارقات أيضا أنه فى حين تراجعت أولوية القضية الفلسطينية فى المحيط العربى الرسمى، فإن حملة مقاطعة إسرائيل تتزايد فى العالم الغربى، ثمة عنصر آخر لا يمكن تجاهله يتمثل فى موقف الشباب الفلسطينى وفصائل المقاومة التى لم تستسلم لليأس بعد، وبودى أن أراهن على الجماهير العربية إلا أننى ترددت فى ذلك نظرا لشدة القمع الذى تتعرض له تلك الجماهير. مع ذلك فإننى لا أستبعد زيادة فى مؤشرات العنف الذى قد يفجره الغضب والشعور بالمهانة والذل. فى كل الأحوال فإننى لا أستطيع المراهنة على رد فعل له قيمة من جانب الأنظمة العربية. وأضع خطا تحت قيمة رد الفعل، لأننا شبعنا شجبا وتنديدا. صحيح أن الأمين العام لجامعة الدول العربية أحمد أبوالغيط اعتبر أن نقل السفارة الأمريكية إلى القدس بمثابة «انتكاسة كبيرة». كما أن أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير صائب عريقات قال إنه من شأن تلك الخطوة أن تدمر عملية السلام، ودعا عمرو موسى الأمين العام السابق للجامعة العربية إلى ضرورة الاستعداد للتعامل مع القرار الأمريكى المنتظر، محذرا مما هو أسوأ، حيث لم يستبعد أن يتجه الرئيس الأمريكى الجديد للاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل. لكن ذلك كله يظل ضمن الضجيج الذى لا طحن له والنفخ فى «القربة» العربية المقطوعة. وليس ذلك رأيى الشخصى فقط، ولكنه جماع رأى الذين سألتهم من الخبراء والدبلوماسيين فى الدول العربية الأربع. < إن المشكلة ليست فقط فى تبجح الآخرين واستخفافهم بالعالم العربى، لكنها تكمن أولا فى الوهن والاستخذاء اللذين يفضحان الحقيقة فى العالم العربى، الأمر الذى يقدم دليلا جديدا على أن تحرير فلسطين لن يتحقق إلا إذا تم تحرير العالم العربى أولا. وإذا بدا ذلك أمرا عصيا فى الوقت الراهن، فإننا إذا لم نملكه فلا أقل من أن نفهمه على وجهه الصحيح.

أضف تعليقك