الرصاصات الثماني التي أطلقت على السفير الروسي في أنقرة أوجعت تركيا، والثورة السورية، أكثر بكثير مما فعلت في روسيا، بل إن الأخيرة، وما يلتحق بها من قتلة وطغاة ومستبدين، هم الرابح الأكبر من الجريمة الإرهابية النكراء.
قبل أن تتسلم موسكو جثة قتيلها، كانت تُسرع الخطى لتسلم رخصة قيادة الموضوع السوري، وتكثف مجهودات تسييد الرؤية الروسية للحل، من دون أن يتقدّم أحد بمشروع مضاد، فدم السفير لا يزال ساخناً، والجرح الروسي مفتوح، ومزاد الحزن وسرادقات العزاء والمواساة أيضاً. وبالتالي، فكل الظروف مواتية، كي يمضى قطار الجنرال بوتين بالسرعة القصوى، مخترقاً كل الحواجز، فلا تركيا تستطيع في هذه الوضعية، الاعتذارية، التصدّي والمناوأة، ولا الأوروبيون يستطيعون الدخول في مواجهات سياسيةٍ ودبلوماسيةٍ مع الدب الجريح.
لم يكن قتل السفراء عملاً تتوخّاه الشعوب المقهورة، أبداً، كان هتاف المقهورين دائماً "أول مطلب للجماهير قفل سفارة وطرد سفير". وعلى ذلك، أقول إن طرد سفير واحد لدولة من الدول الضالعة في إراقة دمائنا في حلب، ومناطق الوجع العربي كافة، كان أفضل وأكثر فائدة من قتل ألف سفير..أو أن سفيراً على سلم طائرة مغادرة ولا عشرة على مائدة التشريح.
بأي معيار ديني، أو أخلاقي، أو إنساني، فإن قتل السفير جريمةٌ إرهابية مدانة، كما أن قتل السوريين، وإبادة حلب، على يد القوات الروسية، هي إجرام أكبر وإرهاب أشد، وأيضاً اغتيال العالم التونسي محمد الزواري جريمة إرهابية أكثر خسّة وفظاعة، لم يحرك العالم ساكناً تجاهها، على الرغم مما يشبه اعتراف الكيان الصهيوني بارتكابها..
وبمعيار المصلحة، دعونا نفكر: ماذا كسبت حلب، والثورة السورية، وماذا خسرت باغتيال سفير روسيا؟ وماذا كسب الإسلام وسيرة النبي محمد، نبي الرحمة والإنسانية، الذي هتف القاتل باسمه وهو يسقط هدفه صريعاً؟
تحيلنا جريمة اغتيال السفير الروسي إلى موقفٍ مماثلٍ على الأراضي الليبية في سبتمبر/ أيلول 2012 عندما أقدمت مجموعة مسلحة على اغتيال السفير الأميركي ودبلوماسيين في هجوم على القنصلية الأميركية في بنغازي، على وقع أزمة الفيلم المسيء للنبي محمد عليه الصلاة والسلام.
وقتها تساءلت: هل كان لابد أن نتحول إلى قتلة وسفاكى دماء، لكي نثبت للعالم أننا نحب سيد الخلق عليه الصلاة والسلام؟ وماذا لو وضعنا جريمة اغتيال الدبلوماسيين الأميركيين في ليبيا فى ميزان عدالة نبي الرحمة والعدل ومعلم الإنسانية الأول، وانتظرنا حكمه في الجناة؟
في 2012، كان العالم أقل جنوناً مما هو الآن، وكانت الثورة الليبية لا تزال تحتفظ بملامحها الشعبية العفوية البسيطة، فجاءت عملية قتل الدبلوماسيين لتحدث ثقباً في جدار الثورة، تسرب من خلاله العنف، فتحولت إلى صراع مسلح، خلق مساحات تتحرك فيها الثورة المضادة، وتقدم نفسها خادماً في بلاط أثرياء الحرب على الإرهاب، لنصل، في نهاية المطاف، إلى انتعاش خليفة حفتر، ووصم الثورة الشعبية بالإرهاب.
عندها قلت "وما سيحدث بعد ذلك أن العالم كله سيترك الموضوع الرئيسي، ويركّز عدساته وميكروفوناته على الهمجية التي لا يريد أن يرى غيرها كمفتاح لشخصية الشعوب العربية والإسلامية.. وبدلاً من أن نجبر الإدارة الأمريكية على الاعتذار، وإزالة هذا العدوان الحقير على مكانة النبي صلى الله عليه وسلم، ومحاكمة قطعان الكارهين الذين أنتجوا الفيلم، أصبحنا مطالبين بالاعتذار عن جريمة قتلٍ بشعة، سفكت دماءً، وأهدرت تعاطف العالم معنا".
والآن، والعالم أكثر جنوناً وشراسة يمينية متطرّفة، تأتي الضربة التي تلقتها تركيا، المدافع الأول عن ثورة الشعب السوري، لتملأ خزانات وقود ترسانة الحرب الخادعة على الإرهاب. وفي اللحظة التي تشتعل فيها عواصم الغرب بتظاهراتٍ وفعالياتٍ ضد الجرائم الإرهابية التي ترتكبها روسيا وإيران والنظام السوري ضد الشعب السوري، يتحوّل مجرى مشاعر الغضب والحزن إلى اغتيال السفير الروسي في أنقرة، لتكون الثورة السورية خاسراً أول.
من بنغازي 2012 إلى أنقرة 2016، كان من الممكن أن ننتفض ونتظاهر، ونهتف ضد الذين أهانوا رسول الإسلام، وقتلوا حلب، طلبا للاعتذار والمحاكمة، ولا نهدأ حتى يتحقق ذلك، غير أن هذا الغضب الأخرق الجهول وضعنا في قفص الاتهام، ومنح خصومنا وكارهينا ما يصيبوننا به في مقتل، ويستثمرونه في إظهارنا كقطيع من الهمج القتلة.
وكما كانت جريمة اغتيال الدبلوماسيين في ليبيا لا تقل إساءة للرسول الكريم عن الفيلم الصهيوني، فإن جريمة اغتيال سفير موسكو في أنقرة لا تقل إيذاءً للثورة السورية من طلعات الطيران الروسي ومجازر قاسم سليماني.
أضف تعليقك