إذا كان التدليس السياسى استثناء فى المجتمعات الديمقراطية التعددية، فهو أصل وقاعدة فى مجتمعات الصوت الواحد.
(١)
فى شهر نوفمبر الماضى اختارت قواميس أكسفود مصطلح «ما وراء الحقيقة» الذى هو ترجمة عربية لكلمة post truth ليكون مصطلح سنة ٢٠١٦، نظرا لذيوعه ورمزيته فى أحداث العام. وعرفته باعتباره يشير إلى الحالة أو الظروف التى يتضاءل خلالها تأثير الحقائق الموضوعية على صياغة الرأى العام فى حين تهيمن عليه العاطفة والمعتقدات الشخصية. الأمر الذى يصنع وعيا كاذبا لدى الجماهير لا صلة له بحقائق الواقع. بكلام آخر فإن المصطلح يعبر عن الحالة التى تطلق فيها الأكاذيب واحدة تلو الأخرى، على نحو يحدث تراكما لدى الجماهير، يحولها بمضى الوقت إلى حقائق ومسلمات يصدقها الناس ويتداولونها فيما بينهم. والنموذج الذى يشار إليه فى هذا الصدد يتمثل فى انتخاب الرئيس الأمريكى الجديد دونالد ترامب الذى جاء تعبيرا عن فاعلية حملة الأكاذيب. عبرت عن ذلك روث ماركوس كاتبة «الواشنطون بوست» التى نشرت مقالا فى ٥ / ١٢ كان عنوانه «مرحبا بكم فى رئاسة ما وراء الحقيقة»، ذكرت فيه أن الأكاذيب كان لها الفضل فى وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض. وكلما زادت الأكاذيب التى يتفوه بها، زادت المكافآت التى قدمها له الناخبون، الذين رأوا أنه يقول الحقيقة دون تزيين.
أضافت الكاتبة قائلة إننا «الأمريكيين» اقتنعنا بمقولة الرئيس الثانى للولايات المتحدة جون آدامز (عام ١٧٧٠) التى ذكر فيها أنه بغض النظر عن رغباتنا وميولنا أو ما تمليه علينا عواطفنا، ليس بإمكاننا تغيير الحقائق والأدلة». إلا أن تلك المقولة عفا عليها الدهر فيما يبدو بعدما حدث فى تجربة الرئيس الخامس والأربعين دونالد ترامب. ذلك «أننا انتخبنا رجلا لا يأبه للحقيقة، ويقف بصلابة فى وجه أى جهود للتحقق مما يطلقه من تصريحات». أضافت السيدة ماركوس أن ترامب ليس أول الرؤساء الأمريكيين الكاذبين، ولكنه أكثرهم كذبا، ونقلت عن السكرتير الصحفى السابق للبيت الأبيض لارى سبيكس قوله «إذا ما كررت القصة خمس مرات تصبح حقيقة». ونقلت عن الفيلسوفة الألمانية حنا ارندت قولها قبل نصف قرن «ثمة عدم تناغم بين قول الحقيقة والسياسة، ولا أحد فى حدود علمى سبق أن اعتبر الصدق واحدا من الفضائل السياسية».
(٢)
ما سبق ليس رأيا خاصا عبرت عنه الكاتبة الأمريكية، لأن الصحف الغربية عموما والأمريكية خصوصا حفلت بعديد من الكتابات التى تناولت أكاذيب ترامب وفريقه. فصحيفة نيويورك تايمز نشرت مقالة لبول كروجمان الاقتصادى الأمريكى الكبير الحائز على جائزة نوبل ذكر فيه أن «ترامب أغرانا وخدعنا» وآدم سيرور كتب فى «ذى اتلانتيك» منتقدا عالم ترامب الموازى الحافل بالأكاذيب. وقال إنه وفريقه «من طينة أناس يسعهم إعلان أن السماء خضراء من دون أن يرف لهم جفن». وتحدث فيرنر موللر أستاذ النظرية السياسية وتاريخ الأفكار بجامعة برينستون عن شعبوية ترامب وأنصاره الذين يسوقون مختلف الحجج لإلغاء مخالفيهم وادعائهم تمثيل كل الشعب.
أما أستاذ الفلسفة بجامعة كاليفورنيا الفا نومى فقد ذهب إلى أن زمن ما وراء الحقيقة سابق على عهد ترامب، لأن الكذب السياسى له تاريخ طويل فى التجربة السياسية.
فى هذا السياق قرأت تحليلا لظاهرة ترامب وزمن ما بعد الوقائع كتبه خبير الشئون الأمريكية الزميل حسن منيمنة فى صحيفة الحياة اللندنية (عدد ١١ / ١٢) تحدث فيه عن أن الأكاذيب والأضاليل إذا صارت سمة الهوامش الثقافية فهو أمر مقدر، لكن أن تكون الصفة الغالبة على الحوار السياسى فأمر مقلق. أما أن تصل الظاهرة إلى موقع الرئاسة وأن بالكامل فأمر خطير ذو تداعيات أكيدة. ومما ذكره أن اليمين الجمهورى الذى يحيط بترامب تجتمع فيه نظريات المؤامرة بالغيبيات والعنصرية والصلافة. حيث يصبح خطابه نموذجا لتغييب الوقائع والمعطيات من قبيل الادعاء بأن هيلارى كلينتون ومن معها يديرون شبكة دعارة للأطفال تتعاطى لحوم البشر فى إطار طقوس شيطانية ويمسى الاعتراض على هذا التيه بحد ذاته مؤامرة ومسعى إلى منع تقصى الحقيقة وحرية التعبير.
(٣)
الحوار حول بروز ظاهرة «ما وراء الحقيقة» تزامن مع إعلان نتائج دراسة أجراها فريق من الباحثين البريطانيين والكنديين حول «زرع الذاكرة الكاذبة». وقد وقعت على خلاصة تلك الدراسة فى تقرير نشرته صحيفة الشرق الأوسط (عدد ٩ / ١٢) تبين منها أن كثيرا من الناس يتذكرون أحداثا لم تقع قط، ومع ذلك فإنهم يبدون على ثقة من وقوعها جراء الإلحاح على تزوير أو خلط المعلومات أثناء عرض الأخبار، نتيجة تكرارها على مسامعهم بصياغات مختلفة فى العديد من المناسبات. وهو ما يؤدى إلى تكوين ذاكرة جمعية خاطئة. الأمر الذى يؤثر على سلوك الناس ومواقفهم الاجتماعية فضلا عن السياسية. وهو ما دعا الباحثين إلى التشكيك فى دقة وصحة أقوال الشهود فى استنادهم إلى الذاكرة أثناء التحقيقيات الجنائية وداخل قاعات المحاكم.
نشر الدارسون نتائج أعمالهم فى ثمانية أبحاث تضمنتها مجلة «ميمورى» لدراسات الذاكرة وقد خصصت كلها لجوانب مختلفة لموضوع «زرع الذاكرة الكاذبة». وأشرفت على العملية الدكتورة كمبرلى وايد بجامعة واريك البريطانية وساهم فيها اثنان من الباحثين الكنديين. وأظهرت دراسة الدكتورة وايد أن الأشخاص الذين تقدم لهم معلومات متخيلة عن أحداث فى بداية أعمارهم، ويقومون مرارا وتكرارا بتخيل أن تلك الأحداث وقعت لهم، يتعرض نصفهم إلى التصديق بوجودها فعلا. وظهر أن نصف ما مجموعه ٤٠٠ مشارك فى عملية زرع الذاكرة هذه، من الذين عرضت عليهم معلومات كاذبة عن حياتهم، اعتبروها جزءا حقيقيا من تاريخهم. وقال ٣٠٪ منهم إنهم «يتذكرونها» وتحدثوا بالتفصيل عن جوانبها. بينما قال ٢٣٪ آخرون إنهم يعتبرون تلك الأحداث جزءا من تاريخهم.
(٤)
معهم حق الباحثون حين تستنفرهم ظاهرة الكذب السياسى أو زراعة الذاكرة الكاذبة. فتلك ممارسات تشكل استثناء على منظومة القيم السائدة فى مجتمعات الديموقراطية. فضلا عن أن أجواء الحرية والتعددية المتاحة لهم تمكنهم من كشف مواضع التدليس وتبصير الناس بالحقائق الخافية. إلا أن المشكلة أكبر بكثير فى المجتمعات غير الديمقراطية التى يهيمن عليها الصوت الواحد، التى تضمن ضخ الأكاذيب طول الوقت بما يكفل غسل الأدمغة وتعميم الذاكرة الكاذبة.
الحاصل فى سوريا يعد نموذجا صارخا يدلل على ما ندعيه. فالخطاب الرسمى بأبواقه المختلفة يروج للادعاء بأنه تم تحرير حلب من «الإرهابيين»، فى حين أن النظام الذى أطلق المقولة مسئول عن قتل ٤٠٠ ألف سورى وإعاقة ضعفهم وتهجير ونزوح عشرة ملايين آخرين. علما بأن أغلب المنظمات التى تقاتله خرجت من عباءة مقاومة إرهاب النظام الذى أذل السوريين منذ أكثر من ثلاثين عاما. وكانت عناصر تلك المقاومة قد دعت إلى التأثير السلمى منذ ست سنوات، ولكنها قوبلت بالبطش والتنكيل وغير ذلك من الممارسات التى تعد جرائم ضد الإنسانية. مع ذلك يراد لنا أن نصدق أن الإرهابييين هم من قاموا بالاستبداد وأن النظام القائم هو من قاد عملية التحرير (بواسطة الروس والإيرانيين).
فى عالمنا العربى قائمة طويلة من العناوين والشعارات الأخرى التى أطلقت خلال السنوات الأخيرة، وشكلت وعيا عاما لم يعرف وجه الحقيقة فيه. ولكن الإلحاح الإعلامى صاحب الصوت الواحد حول العناوين الملتبسة، من خلال الذاكرة التى تم زرعها، إلى حقائق ومسلمات مستقرة. إذ شمل الالتباس مصطلح «الربيع العربى» الذى أصبح يطلق عليه وصف «الخراب العربى» فى العديد من منابر الإعلام، وجرى الربط بينه وبين مظاهر الفوضى التى شهدتها بعض الأقطار، والتى حركتها قوى الثورة المضادة حين سعت إلى إفشال الربيع بكل السبل. وهذا التشويه أصاب ثورة ٢٥ يناير فى مصر التى صار البعض يشير إليها بحسبانها «مؤامرة» دبرتها قوى أجنبية وليست انتفاضة باهرة للشعب المصرى. وبمناسبة المؤامرة فإن ثمة خطابا فى مصر دائم الإشارة إلى أن البلد مستهدف وأن الكل يتآمر عليه من جانب «أهل الشر». كما أن الإخوان تحولوا إلى قوة عالمية جندت كبريات الصحف والبرلمانات الغربية واخترقت البيت الأبيض فى واشنطون. إلى جانب دورهم فى كل جرائم القتل التى استهدفت الشرطة والجيش وصولا إلى دورهم فى انسداد بلاعات الإسكندرية ورفع أسعار الدولار.
ولعلى لا أبالغ إذا قلت إن وقائع التاريخ المصرى منذ ٢٥ يناير عام ٢٠١١١ وحتى اللحظة الراهنة تمت صياغتها من وجهة نظر واحدة. ولاتزال بحاجة إلى تحقيق وفرز. ذلك أنه صار لدينا تاريخان لثورة ٢٠١١، أحدهما قضائى محايد قامت بتحريره لجنة تقصى الحقائق التى رأسها المستشار عادل قورة، وآخر أمنى نسخ الأول وجرى تصميمه لتبرئة الشرطة من قتل المتظاهرين وتصفية الحسابات السياسية أمام القضاء فى وقت لاحق.
ليس الأمر مقصورا على الذاكرة السياسية فحسب، ولكنه شمل أيضا الذاكرة التاريخية. ففى ثنايا الحملة ضد الإرهاب صور البعض التاريخ الإسلامى على أنه رحلة للدم. وبعد تفجير الكنيسة البطرسية جرى انتقاء بعض المعلومات الشاذة فى كتب التراث وقدمت باعتبارها «قنابل التكفير». ومنها ما عبر ازدراء أهل الكتاب. ومن شأن كل ذلك أن تظل الحقيقة تائهة وضائعة، بحيث يتم تشكيل المدارك والرأى العام تبعا للأهواء والنزوات السياسية الطارئة.
أضف تعليقك