الضحايا هم أهلنا جميعا، والمصاب مصاب الكل، ومن ثم فنحن الآن أمام استحقاقٍ وطني وحضاري واجتماعي، فى لحظةٍ تبدو مواتيةً للغاية، لكى تتصالح مصر مع نفسها، وتستردّ شخصيتها التي ضاعت وانمحت، بفعل سلسلة من الجرائم السياسية والحضارية التي ارتكبتها بحق نفسها.
أعرف أن المصيبة فادحة، وأن الحزن فوق الاحتمال، لكن الأحزان على جسامتها تتيح نوعاً من أنواع التطهر والاغتسال الروحى، فلنستغل الفرصة، وبعد أن نعترف "بأنا كنا ساديين ودمويين وكنا وكلاء الشيطان"، ونستعيد مصر من أولئك الذين خنقوها، وحشروها فى أنبوب العجز وقلة الحيلة، وأغلقوا كل النوافذ المطلة على أحلام التغيير والنهوض من جديد.
مجدّداً، ضبطتنا كارثة انفجار الكنيسة متلبسين بحالةٍ من العمى، أصابت البصر والعقل أيضاً، بحيث بدت مصر، وكأنها مجموعة من العميان، يتخبطون في كهف مظلم عميق.
وليس أدلّ على عمى البصر، من ذلك السباق المحموم بين طائفة الخبراء المنتفخين جهلاً على وضع الإجابات النهائية القاطعة التي لا تقبل النقاش من وجهة نظرهم على أسئلة الفاجعة.
هؤلاء الخبراء المختالون بمعرفتهم الفظيعة ببواطن الأمر أفتوا في كل شيء، من منفذ الجريمة إلى المحرّض، إلى الدوافع، إلى نتائجها المستقبلية.
وفي أجواء كهذه، تنشط طبقة الكهنة الذين يدّعون احتكار المعرفة وملامسة اليقين، ومن ثم تتطاير طوال الوقت مفرداتٌ من عينة "تكهنات" و"ترجيحات" دون أن يفكر أحدٌ في التواضع قليلاً، ليستخدم آلية الاحتمال.
هذا عن عمى البصر، أما بخصوص البصيرة، فحدّث ولا حرج، إذ انطلق مهرجان آخر للإقصاء والاستبعاد والتحريض، كل طرفٍ يريد أن يعتبر الآخر مسؤولاً عن المناخ الدى أوجد الكارثة، ويبلغ عنه، ويضع اسمه في قوائم المتهمين، ويطالب بإخراسه واستئصاله من لغاليغه الفكرية والثقافية، لكي يخلو لهم وجه أمهم مصر التي يحبونها أكثر من أبنائها الآخرين الأشرار.
أما العمى المركّب، بصراً وبصيرة، فقد ظهر في حالاتٍ محدودة، عندما تصوّر بعض المتهوسين المتعصبين أن مسلمي مصر مسؤولون عن المذبحة، وأن الغضب العارم من الحادث المروّع يمكن استغلاله في إطلاق دعوات للقطيعة والعزلة بين المسيحيين والمسلمين فى مصر.
تنويه: كل ما قرأته أعلاه منقولٌ، حرفياً، من بعض مقالاتي المنشورة في أعقاب كارثة تفجير كنيسة القدّيسين في الإسكندرية، مطلع يناير 2011 استحضرتها، وأنا أتابع التطابق المذهل بينها وبين فاجعة تفجير الكنيسة البطرسية، الملاصقة للكاتدرائية المرقسية، في القاهرة أمس.
وقعت الأولى في الاحتفال بميلاد المسيح عيسى، عليه والسلام، أما الثانية فقد حدّد لها المجرمون الأشرار يوم مولد النبي محمد، عليه الصلاة والسلام، غير أن الدوافع واحدة، والسيناريو أيضاً واحد، إذ يلجأ المستبدون دائما إلى استخدام لعبة الإرهاب لصناعة حالةٍ من الفزع العقائدي، لحرق أي فرصةٍ لمعارضة وطنية، حقيقية وليست تجارية، تواجه نظاماً فاشلاً مستبداً قمعياً.
لكن، تبقى بعض الاختلافات بين الحالتين: ففي الأولى لم يكن النظام على هذا النحو من البشاعة والإجرام، والرغبة المحمومة في حرق المجتمع، ولم يكن الاحتقان الطائفي والمجتمعي قد بلغ حدود الإقصاء، والدعوة إلى الإبادة والاستئصال والتطهير العرقي.. أيضاً لم تكن الطبقة السياسية المصرية على هذه الحالة البائسة من القابلية للاستعمال، من السلطة، كما هو الحاصل الآن، وأتذكّر أنه، في اليوم التالي لتفجير الاسكندرية، كان حي شبرا، النموذج الأوضح للتعايش، يشهد مسيرةً شعبية مذهلة، يتصدّرها السياسي الإخواني محمد البلتاجي، وزميله القبطي أمين اسكندر، وتشارك فيها كل ألوان الطيف السياسي المصري، ضد الإرهاب، وتتشكل بعدها هيئة شعبية تدافع عن المواطنة، وتحمّل النظام المسؤولية.
تالياً، ويجب أن يكون أولاً، كان الصهيوني عدواً، بالبداهة والفطرة، ومن ثم لم تكن فرضية حضور الموساد في الجريمة مستبعدةً من حسابات الرصد والتحليل.. أما الآن فقد صار الصهيوني شريكاً وراعياً رسمياً لعصابة الأشرار التي اختطفت مصر إلى المجهول.
أخيراً، تبقى هتافات الأقباط الغاضبين أمام الكاتدرائية، أمس، ضد النظام، مطالبةً برحيله، دليلاً على أن ست سنواتٍ من تجارب الوجع والألم والمعاناة من ألاعيب السلطة، أوجدت وعياً عصياً على الاستجابة لسيناريوهات الخراب، التي يحملها الأوغاد لمصر.
أضف تعليقك