إذا كانت انتخابات الرئيس الأمريكى الجديد تعبر عن أزمة المجتمع الأمريكى، فإن حفاوة بعض العواصم العربية به تعبير أشد عن أزمة العالم العربى.
١
أصبح مصطلح «الصدمة» الأكثر شيوعا فى تعليق بعض الدوائر الغربية على النتيجة التى أسفرت عن فوز دونالد ترامب فى انتخابات الرئاسة الأمريكية، وقد استخدمت الكلمة وزيرة الدفاع الألمانية أورسولا فون دير لاين، أما السفير الفرنسى لدى الولايات المتحدة جيرار ارود فقد ذهب إلى أبعد، واعتبر أن النتيجة من إرهاصات الانهيار فى العالم «قالها فى تغريدة على صفحته ثم حذفها لاحقا». أما أصداء الصدمة فى الولايات المتحدة ذاتها فلا تزال تعبر عنها مظاهرات الرفض والاحتجاج التى اجتاحت العديد من المدن الأمريكية.
الفرحة الكبرى كانت فى إسرائيل التى عبر عنها قادة اليمين الذين أضفوا على فوز ترامب سمة دينية حين اعتبروه «مخلصا» أرسلته العناية الإلهية لكى يكمل المعجزة الإلهية التى حدثت عام ١٩٦٧.
حين هزم الجيش الإسرائيلى الجيوش العربية. إذ تذهب الأدبيات الدينية اليهودية إلى أن المخلص سيأتى يوما ما لتحقيق الخلاص اليهودى المتمثل فى تدشين الهيكل وإقامة دولة الشريعة. وبسبب شيوع تلك اللوثة فإن بعض الأصوات ارتفعت محذرة من الاندفاع وراء الرئيس الجديد.. فنشرت صحيفة هاآرتس مقالة للكاتب ارييه شافيت حذر فيها من تطرف ترامب وعنصريته. ومما قاله إنه على مدى التاريخ فإن القادة الغوغائيين على شاكلة ترامب الذين يتمكنون من إثارة مشاعر الجماهير كانوا أكثر أعداء اليهود قساوة.
التحذير صدر أيضا عن بن كاتسبيت أحد كبار المعلقين الذى قال إن ثروته كملياردير جعلته فى غنى عن دعم اللوبى الإسرائيلى فى واشنطن، الأمر الذى يسمح له باتخاذ مواقف تثير المنظمات اليهودية وإسرائيل.
أيا كان الأمر، فإن الحفاوة الإسرائيلية بانتخاب ترامب لها ما يبررها، ذلك أن تصريحاته ومواقف مساعديه تذهب إلى أبعد مدى ممكن فى خدمة المخططات الإسرائيلية، وهو ما عبرت عنه تصرحيات الرجل وهو مرشح وتصريحاته بعدما صار رئيسا.
٢
ما يحتاج إلى تحرير وتفسير هو هرولة بعض القادة العرب نحوه ومسارعتهم إلى الحفاوة به، ومما تابعناه خلال الآونة الأخيرة ان المهرولين العربى ثلاث فئات: فئة رحبت بموقفه إزاء إيران وحديثه عن إلغاء الاتفاق النووى معها، فئة أخرى رحبت بعدائه للإسلام السياسى واعتزام إدارته اعطاء الأولوية للحرب ضد الإرهاب، وعدم اكتراثه بقضايا الحريات وانتهاكات حقوق الإنسان. الفئة الثالثة لها تحالفاتها التاريخية والاستراتيجية مع الولايات المتحدة بصرف النظر عن موقف وهوية الرئيس الذى يسكن البيت الأبيض.
سجلت الملاحظة كاتبة مجلة «نيويوركر» روبن رايث التى اعتبرت الترحيب بانتخاب ترامب فى الشرق الأوسط «مفاجئا وغير متوقع»، إلا أنها أضافت أن ذلك الترحيب لا يعكس بالضرورة مواقف الشعوب. استشهدت فى ذلك بنتائج استطلاع للرأى أجرى فى تسع دول عربية قبل أيام قليلة من إجراء الانتخابات الأمريكية حول مدى شعبية المرشحين هيلارى كلينتون وترامب.
(الدول التسع هى: مصر والعراق والمغرب وفلسطين «الضفة وغزة»، إضافة إلى المملكة العربية السعودية والكويت وتونس والأردن والجزائر). وبين الاستطلاع أن ٦٠٪ بهذه الدول فضلت الديمقراطية هيلارى كلينتون، فما حصل الجمهورى ترامب على تأييد من قبل ١١٪ فقط. الملاحظة الأخرى المهمة أن أقل نسبة لتأييد ترامب جاءت من مصر وفلسطين، وإذا كان مفهوما أن يكون انتخاب ترامب مخيبا لآمال الفلسطينيين بسبب فجاجة تصريحاته المنحازة لإسرائيل، فإن الشق المتعلق بمصر لا يخلو من مفارقة، إذ فى حين أن الرئيس السيسى كان أول حاكم عربى بادر إلى تهنئة ترامب بالفوز فإن الشعب المصرى صنف ضمن أقل شعوب المنطقة ترحيبا به. وهى ملاحظة كاشفة عن فجوة فى الرؤية جعلت القلق الفلسطينى على مصير القضية بعد انتخاب الرجل معادلا لقلق المصريين على مصير الديمقراطية والحريات العامة فى هذه الحالة.
٣
لأن الفرق كبير بين الحديث فى السياسة وممارستها فإن الوقت لا يزال مبكرا لتقييم سياسة الرئيس المنتخب المقبل من خارج السياسة، وليس له سجل يمكن التعويل عليه فى مناقشة خياراته أو التنبؤ بسياساته القادمة. كما أن أغلب المحللين يدعون إلى الحذر فى الحكم عليه. بحجة أن ترامب المرشح ليس بالضرورة ترامب الرئيس، لذلك فإن ما صدر عنه أو وعد به أثناء الحملة الانتخابية ليس بالضرورة موقف بعد انتخابه. مع ذلك فثمة سمات له اتضحت فى الآونة الأخيرة.
فمحرر «ذى اتلانتيك» الأمريكية آدم ساروار قال إنه هو وفريقه «من طينة إناس يتقنون الكذب» بينما يسعهم إعلان أن السماء خضراء دون أن يرف لهم جفن». وهو مؤمن بسياسة القوة التى لا تأبه بقيم الديمقراطية وحقوق الرنسان. ثم إنه معادٍ للإسلام والمسلمين. كما أنه «عنصرى مثل هتلر تجاه الشعوب الأخرى. إلا أن الترامبية تختلف عن الهتلرية فى أن الأولى عنصرية عضوية وشعبوية، فى حين أن الهتلرية كانت عنصرية مؤسسية ونخبوية، وفيما عدا ذلك فإن بين الظاهرتين تشابها كبيرا بخاصة فى النظرة تجاه الشعوب والأعراف والدول الأخرى، وتجاه إدارة السياسة الدولية والعلاقات الخارجية» (رغيد الصلح ــ الحياة اللندية ١١/١٠).
نبهت مجلة «فوربس» إلى ترجيح التحول فى السياسية الأمريكية فى ظل الوضع المستجد، الذى سيكون له تأثيره الكبير على الولايات المتحدة وعلى الشرق الأوسط. إذ فى دراسة نشرتها أخيرا تحدثت عن تراجع فكرة العولمة التى قادتها الولايات المتحدة فى العقدين الاخيرين، والعودة إلى الاهتمام بالدولة القومية مرة أخرى. وكان العلماء الأمريكيون وفى المقدمة منهم استاذ العلوم السياسية فرانسيس فوكوياما صاحب مقولة «نهاية التاريخ» قد تنبأوا بتراجع الدول القومية، وادعوا أنها لن تصمد أمام هجمة العولمة ورياحها إلا أن التجربة أثبتت أن تلك الوقعات لم تكن دقيقة،، وأن الفكرة اتسمت بالمبالغة الكبيرة، ذلك أن الدول القومية الكبرى أصبحت تراكم قوتها. وذلك ظهر جليا فى تعاظم قوتها الدفاعية، بحيث انضمت إلى أكثر الدول انفاقا على الدافع عام ٢٠١٥.
لقد روج ترامب طوال حملته الانتخابية لفكرة استعادة الولايات المتحدة قوتها وعظمتها التى تأثرت بفكرة العولمة واتفاقيات التجارة الحرة. ولذلك دعا إلى إلغاء تلك الاتفاقيات لإعادة تشغيل المصانع التى كانت قد انتقلت إلى الخارج للاستفادة من العمالة الرخيصة. وهو ما دغدغ مشاعر كثيرين رغم استحالة تنفيذ الفكرة (تصنيع بعض أجزاء سيارة فورد فى المكسيك يجعل سعرها يتراوح بين ١٦ و٢٠ ألف دولار فى حين أن تصنيعها بالكامل فى ميتشجان أو أوهايو برفع السعر إلى ما بين ٢٨ و٣٢ ألف دولار).
الشاهد أن الترامبية تغذى وتسعى لاستعادة الدولة القومية القوية وهو ما أقلق أوروبا بسبب لشكوك التى اثارتها تصريحات الرئيس المنتخب التى انتقد فيها الأعباء المالية التى تتحملها واشنطن فى ميزانية الحلف «تعادل ثلثا الميزانية» إلا أن ما يهمنا أكثر هو التأثير المتوقع على مجريات الأمور فى الشرق الأوسط.
٤
كل الدلائل تشير إلى أن إسرائيل هى الفائز الأكبر من انتخاب ترامب. إذ إلى جانب وعده بنقل عاصمة إسرائيل من تل أبيب إلى القدس، فإن الفريق الذى اختاره يمثل ضوءا أخضر لإسرائيل التى تنطلق لتنفيذ مخططاتها وتحقق طموحاتها فى جميع الاتجاهات. من ناحية أخرى فما عاد سرا أن خصومته لإيران وانحيازه إلى سياسة القوة مع غضة الطرف عن قضايا الحريات وحقوق الإنسان. إلى جانب عدائه للإسلام السياسى. ذلك كله ينذر بتحولات مهمة فى المنطقة نستطيع أن نرصد أبرز معالمها فيما يلى:
< إذ كان الحرب ضد إيران من خلال الاصطفاف إلى جانب ما سمى بالمحور السنى من شأنه تعميق الصراع بين الشيعة والسنة لعدة سنوات قادمة إلى جانب إسدال الستار على القضية الفلسطينية وطى صفحتها.
< انصراف الإدارة الأمريكية عن قضايا الحريات وحقوق الإنسان فى المنطقة يشكل دعما كبيرا للأنظمة القمعية فى العالم العربى. الأمر الذى سيكون له أثره المباشر على تراجع وضع الديمقراطية والتمادى فى انتهاكات حقوق الرنسان.
< التركيز على محاربة داعش والمنظمات لها يضمن استمرار نظام الأسد ويطيل من معاناة ومأساة الشعب السورى.
< فى هذه الأجواء فإن المناخ يصبح مواتيا سواء لانتعاش جماعات التطرف والإرهاب أو لتفتيت الدول العربية بأكثر مما هى مفتتة الآن بفعل الصراعات المذهبية والعرقية. بالتالى ففى حين تنتقل الولايات المتحدة من العولمة إلى الدولة القومية، فإن فكرة الدولة ذاتها سوف ترجع فى العالم العربى لصالح مشروعات التقسيم والجماعات الجهادية العابرة للحدود.
< لا غرابة والأمر كذلك أن يعد فوز ترامب الذى احتفت به إسرائيل بمثابة انتصار لقوى الثورة المضادة فى العالم العربى وهى التى ما برحت تلوح بشعار الحرب ضد الإرهاب، وجعلت منه قناعا وستارا أخفى حربها الشرسة ضد الربيع العربى بمختلف تجلياته».
لست أدعو التفاؤل أو التشاؤم، لكننى أتمنى أن نضع الأمر فى إطاره الصحيح، وأن نفكر جيدا فى كيفية التعامل معه، ذلك أن قوة المجتمع الأمريكى بمؤسساته الراسخة ومنظومة قيمة السائدة تؤمنه بصورة نسبية وتضمن له التوازن وتحول دون تصدعه رغم انقسامه، أما مشكلتنا فى العالم العربى فهى أكبر وأكثر استعصاء، لأن مجتمعاتنا من الهشاشة والوهن بما يجعلها قابلة للتشرذم والانفراط عند أول هزة تتعرض لها.. يا خفى الألطاف نجنا مما نخاف.
أضف تعليقك