• الصلاة القادمة

    الفجر 04:23

 
news Image
منذ ثانيتين

رصدنا في المقال السابق كيف يرى العسكريون أنفسهم كدولة فوق الدولة مستقلة بمشروعاتها الاقتصادية وأنظمتها المالية وتهدد كل من يقترب منها بالقتال، نحاول في هذا المشهد رصد معالم رؤيتهم للشعب من خلال تحليل ما ورد في التسريبات الفاضحة وكذلك التصريحات الرسمية إضافة إلى الممارسات الفعلية والسياسات المطبقة منذ 3 يوليو وحتى الآن، وبالأخص ما يتعلق منها بمعاش الناس وحياتهم.

"هذا الشعب لم يجد من يحنو عليه ويرفق به"، عبارة استهل بها الجنرال خطابه الأول للشعب بعد الانقلاب بأيام، في محاولة لاستمالة قلوب المصريين البسطاء وتلبيس الأمر عليهم، كما لو كان دافع الانقلاب هو الظروف المعيشية الصعبة التي يعيشها أغلب المصريين منذ عقود. أخذ الجنرال يكرر نفس العبارة أو عبارات شبيهة مثل "إنتو متعرفوش إنكو نور عنينا ولا إيه"، خلال السنة الأولى للانقلاب وحتى تنصيب نفسه رئيسا للبلاد بطريقة مباشرة عبر انتخابات شكلية قاطعها أغلب المصريين وجاءت نتيجتها على غرار نتائج مبارك.

تغيرت نبرة خطاب السيسي فور توليه السلطة تدريجيا، بدءا بالحديث عن الظروف الاقتصادية الصعبة التي تمر بها البلاد ومطالبة الشعب بالصبر لسنوات، وصولا إلى نبرة أكثر حدة واستخدام عبارات مغايرة تماما مثل: "معنديش مطالب فئوية" و"اللي بيطالب دولقتي في الظروف دي بيهد مصر وهو مش واخد باله" و"هاتكلوا مصر يعني" و"احنا فى حالة حرب"... كذلك تغير حديثه من الصبر لسنوات إلى الصبر لعقود: "ممكن الجيل الحالي واللي بعده ميستفيدوش حاجة من اللي بنعمله.. والجيل والجيلين في عمر الدول مش كتير".

مع انهيار قطاع السياحة بسبب المواجهات المستمرة في سيناء والتفجيرات اللانهائية وحادثة الطائرة الروسية والفرنسية وغيرها، تغير خطاب السيسي تماما للشعب من الصبر على سوء المعيشة إلى الصبر على الجوع المحتمل: "إيه المشكلة.. ها نجوع... ما نجوع... المهم نبقى كده.."، مشيرا بساعده إلى أعلى، هكذا علق الجنرال على المخاوف المتصاعدة حول خراب السياحة في مصر في ظل الحوادث الإرهابية المتكررة.

تمر الأيام وتنكشف تسريبات الجنرالات وهم يتحدثون إلى بعضهم البعض بأريحية تامة بعيدا عن الكاميرات، فإذا بهم ينظرون للشعب نظرة أكثر احتقارا مما تشي به تصريحاتهم الفجة أمام الكاميرات، فهذا الجنرال السيسي في إحدى التسريبات أيام ما كان وزيرا للدفاع في عهد الرئيس مرسى، يتحدث إلى عدد من قادة وضباط القوات المسلحة عن رؤيته لو أصبح مسؤولا اقتصاديا: "أنا معرفش أبو بلاش.. تدفع تاخد متدفعش ما تاخدش"، و"في قرارات مهمة المسؤولين خايفين ياخدوها من سنين زي موضوع الدعم.. أنبوبة الغاز مثلا بتكلف الدولة حاجة وستين جنيه.. ماينفعش تفضل بالسعر اللي المواطن بياخدها بيه ده"، و"أنا لو طولت أخلي اللي بيتكلم في التليفون واللي بيستقبل يدفعوا.. أخليهم يدفعوا". 

تمر الأيام ويكشف وزير التموين د. باسم عودة (معتقل ومحكوم عليه بالإعدام)، عن جانب آخر من شخصية الجنرال في ما يتعلق برؤيته للشعب وفئاته الكادحة، يقول عودة: "كنا في اجتماع مجلس وزراء بحضور جميع الوزراء بما فيهم الفريق السيسي، وعرض مشروع زيادة المعاشات بنسبة 10%، فأبدى السيسى اعتراضه، قائلا: "كفاية دلع للشعب.. الشعب ده مدلع ومحتاج حد يفطمه"، ويبدو أن ما كشفه باسم عودة ليس ببعيد عما قاله السيسي أعلاه.

تمر الأيام وتنكشف تسريبات أكثر للجنرالات، فإذا بهم يحدثون عن الشعب بوصفه عبء يستهجنون ويريدون التخلص منه في أقرب فرصة كما جاء على لسان عباس كامل مدير مكتب السيسي في إحدى التسريبات.. "شعب جعان ومتنيل بستين نيلة"، أو يتحدثون عنه باعتباره عددا يمكن استثماره في لقطة هنا أو هناك، مثل لقطة 30 يونيو أو لقطة دعم الجنرال للرئاسة، كما جاء في إحدى التسريبات حيث يتحدث عباس كامل إلى أحمد علي، المتحدث الجاذب جدا للستات كما وصفه السيسي. في تسريب آخر، يقول عباس لأحمد: "إحنا ملاحظين إن في حملة ابتدت تشتغل لمحاولة تشويه صورة المشير السيسي، عايزين نوصل للناس هل ده بقى يعجبك كدا يا شعبنا يا مصري يعجبك الراجل اللي ضحى علشانك بعمله وكلام من ده... عايزين نعمل حالة كدا يا أحمد ونهيج بيها الناس... وبعدين في النهاية نبقى لبسنا العمة إن في حملة مدبرة ضد السيسي".

يسترسل عباس في الحديث عن كيفية تنفيذ هذه المسرحية على الشعب لأخذ اللقطة المناسبة: "وبعدين تتكلموا على العجلة.. ويطلع صحفي يقول كذا، ويحاول يزج بالقوات المسلحة هوا ده اللي جناه السيسي، عيب عليكو، المشير ده راجل شجاع متميز حر مصري وطني ليه مبنحافظش عليه، إزاي تسيبوهم يقعدوا يشككوا فيه ويشككوا في الناس المحترمة اللي مشفناش منها إلا كل خير، السيسي يعمل إيه وهوا في في الحالة و الموقف ده وهو مهدد هوا وولاده وبناته وأحفاده، الراجل (السيسي) مستاء جدًا وصعبان عليه إن الناس تعمل فيه كدا، المشير مش عاوز من الناس حاجة، هوا لو عاوزينه دلوقتي يسحب ترشيحه هيسحب وهيقعد في بيتهم مش عايز حاجة، المشير مش عايز حاجة خالص ولا انتخابات ولا نيلة ولا زفت ولا كلام من ده، إنما ليه الإهانة وليه التشكيك ليه".

بعد ذلك يطالب عباس أحمد على بالجدية فى تناول هذا الأمر بشكل حرفي مبينا له الأدوات التي سيستخدمها في تنفيذ هذه المسرحية قائلا: "عاوز الأمور تتناول كدا.. ها تكلم العياب بتوعنا في الاعلام، أحمد موسى بقى على وائل الإبراشي على إبراهيم عيسى ، والعيال بقى بتوع الأون تي في على أماني، وكلم رولا، وكلم محمود مسلم، وكلم الواد اسمه ايه الحسيني على هنا على هنا على بتاع .. تمام".

تتوالى التسريبات الكاشفة عن رؤية الجنرالات للشعب المصري، فهذا اللواء أحمد عبد الحليم (مساعد رئيس الأركان للشئون الطبية) يجادل عباس كامل بشأن منحة سعودية أهديت للمصريين فى مجال الصحة وتتعلق بتجديد وإنشاء عدد من المستشفيات، إذ يميل عباس إلى إسناد الأمر لوزارة الصحة بينما يميل الاول إلى إسنادها للقوات المسلحة على اعتبار أن المنحة كانت للقوات المسلحة وليس للشعب المصرى أو جمهورية مصر العربية، وعلى اعتبار أن الجيش والشعب واحد، كما جاء على لسانه في هذا التسريب الدال على منطق الدولة داخل الدولة، أو الدولتين، دولة مصر العربية ودولة الجيش الشقيقة.

يبدأ عبد الحليم متحدثا إلى عباس عن مذكرة كتبها لتجديد وتشغيل بعض المستشفيات في بعض المناطق المصرية، ويقترح عليه أن يكلم المسئولين السعوديين لتمويلها: "دلوقت المستشفيات اللي عايز ينقلها لمصر وتعملها القوات المسلحة (يقصد الملك) أنا عندي مشكلة وقدمت مذكرة....المشكلة فى الصيانة والمصاريف التانية، هل ممكن يا فندم جماعة الملك يكمل جميلة ويدفع السنة دي بدل التلات سنين يدفع تكاليف الصيانة والأدوية"، فإذا بعباس ينصحه قائلا: "عايز تسمع مني متطلبش الطلب ده.. يانطلب يامنطلبش فكة.. هتتحسب عليك جميلة، هيطلعوا كام في النهاية مش هيكملوا 30 أو 40 مليون جنيه".

يسترسل عبد الحليم فى محاولة اقناعه بضرورة: "سيادتك دولقتي لازم نغطى المقابل، الناس في مصر في التلات أماكن خدوا فكرة إن الدوا بيتقدم مجاني"، فيرد عليه عباس محاولا إغلاق الملف: "لا مفيش خلاص الجانب السعودي خلص ومشي"، ثم يتدخل أحمد على في النقاش قائلا" أنا راي كفاية كده ونسلمهم لوزارة الصحة ونخرج بره اللعبة ديه"، فيرد عليه عبد الحليم بمنطق الدولتين: "لا هو أهداهم للقوات المسلحة"، فيحاول عباس التأكد من صيغة الهدية  قائلا: "للقوات المسلحة ولا لجمهورية مصر العربية"، فيرد عليه عبد الحليم بمنطلق آخر غريب الشأن " الشعب المصري هو القوات المسلحة ومش عايز الملك يقدم هدية وإحنا ندخلها خزنتنا أو وزارة الصحة أهملتها".

من خلال تحليل التصريحات والتسريبات السابقة تتكشف لنا رؤية الجنرالات الحقيقية للشعب المصري، فالشعب بالنسبة لهم إما  عبئا و عالة يجب التخلص منها، كما في حالة خطاب الجنرال للموظفين الحكوميين: "انتو سبعة مليون محتاجين مليون واحد بس... وطالما ممشتش حد محدش يطالبني بزيادة"، أو الشعب بالنسبة لهم عددا كبير يمكن تحريكه وتهييجه واستخدامه لأخذ اللقطة المناسبة هنا أو هناك  كما في حالتي 30 يونيو و دعم الجنرال للرئاسة، أو الشعب بالنسبة لهم  طفلا لقيطا يمكن استخدامه في عملية الشحاتة الخارجية وجنى الأموال باسمه، كما في حالة  التسريب الأخير الذى كشف منطق الدولتان، دولة جمهورية مصر العربية، ودولة جمهورية الضباط كما يصفها يزيد صايغ، أحد أشهر الباحثين العرب في شؤون العلاقات المدنية العسكرية.

أضف تعليقك