شغل الإسلام الصدارة لألف وثلاثمائة سنة من تاريخه، ليس بفضل السيف، فقد كان في فترات طويلة هو الأضعف عسكرياً في مواجهة غارات خصوم عرف التاريخ مقدار قوتهم واتساع غزواتهم؛ ولا بفضل حضارة سابقة للشعوب المسلمة، فأغلبية تلك الشعوب خصوصاً في آسيا وشمال إفريقيا والجزيرة العربية لم تكن على درجة تُذكر بسلم الحضارة.
كما لا يعود الفضل فقط لمجموعة القيم الدينية والإنسانية الراقية التي يتشارك فيها الإسلام مع بقية الأديان السماوية خصوصاً المسيحية واليهودية، على رأسها عبادة الله الواحد والإخلاص له في السر والعلن والإيمان بالبعث والحساب وعدالته في اليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره. فالإسلام وأديان أهل الكتاب أصلها واحد ومنبعها واحد، وهي متشاركة في غالبية النسيج القيمي والأخلاقي؛ لو استثنينا اختلافات جوهرية في جوانب العقائد.
المخطوفون ذهنياً بالحوادث العسكرية للتاريخ والمفتونون عقلياً بالتأريخ البرجوازي الذي يصف حياة الطبقات المرفهة وينسى حياة الشعوب، يرون تاريخنا معارك وسيوفاً، وفتوحات وغزوات، بينما يغفلون عن تاريخ القيم الكبرى التي حملها الإسلام فجعلت منه نقطة تحول في التاريخ البشري، سواء تاريخ الشعوب الذي اعتنقته أو تلك التي نابذته.
فالحضارات تستند لمجموعة من القيم التي تمنعها من العلو والفساد وقت قوتها ونهضتها وتدفعها للصمود وقت الكوارث والمحن، وتصبح وقوداً لكفاحها لأجل الخروج منها واستعادة موضعها في الصدارة، فإذا فقدت تلك القيم فقدت أساس وجودها وكان الفناء مصيرها مهما علت.
سأكتفي هنا بإشارة سريعة لقيمتين تُصارعان في العصر الحديث من سوء تناولهما: الحرية والمسؤولية..
يتبادر للذهن أن التوحيد هو القيمة العليا في الإسلام، بينما في الحقيقة هو أهم غاياته التي يسعى المؤمن لبلوغها. والفارق بين القيمة والغاية أن الأولى تؤهل للثانية، وأن الثانية لا تُغني عن الأولى، فالمؤمنون الموحدون يفقدون وجودهم الحضاري ودورهم الإنساني، إنْ هم جَردوا الأيمان والوحدانية من القيم العليا التي تحولهما إلى معاني فاعلة لا معتقدات خاملة.
كما أن غاية التوحيد ليست حكرا على الإسلام، فهي غاية كل الأديان السماوية بغض النظر عما دخلها من دخن هنا أو تشويه هناك.
القيمة الأكبر في الإسلام هي الحرية وما يرتبط بها من مسؤولية، فهي ما ميّزته عن ديانات يقدرها وينظر إليها بود باعتبارها ضمن عائلة واحدة أسماها "أهل الكتاب".
فقد شدد القرآن المكي على الحرية والمسؤولية حتى أمست جزءا من الإيمان وسببا لقبوله؛ "فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر" (الكهف 29)، وقريب منه "اعملوا ما شئتم" (فصلت 40)، وتنبه على النبي صلى الله عليه وسلم بأنه "لست عليهم بمسيطر" (22 الغاشية)، وقوله تعالى في عبارة قاطعة "لكم دينكم ولي دين" (الكافرون 6). وكلها معاني تشدد على قبول الاختلاف في ظل الحرية، ولا تقبل فرض العقيدة التي يؤمن صاحبها بصحتها وتفردها على الغير؛ بل جاء استعمال كلمة "مسيطر" استعمالاً لغوياً مقصوداً ككل استعمالات القرآن، ليهدر الإكراه المادي والمعنوي المستند للتملك أو السيطرة.
يبلغ الأمر مداه في نقاش حول وحدانية الخالق ونفي الشريك عنه في مواجهة من يعتقد أن له شريكا فيطرح سؤالا متكررا بسورة النمل "أإله مع الله؟!!" ثم يجيب إجابة قاطعة قوامها الحرية واحترام العقل والدعوة للتفكر في الآية 64 ليقول "قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين"؛ ولا تجتمع محاجاة بالبرهان مع إكراه بأي صورة، بما فيها الإكراه بالسخرية أو التحقير.
لم تكن قيمة الحرية بما تشمله من حرية العقيدة وممارسة الشعائر واحترام شرائع الآخر عبارات قرآنية للتلاوة فقط، فقد ترجمها النبي -صلى الله عليه وسلم- عملياً في أولى خطواته لبناء دولة المدينة، فأقر صحيفة المدينة بعد تشاور مع كل قاطنيها بكل دياناتهم وأعراقهم.
ويعتبر البعض بحق صحيفة المدينة وثيقة دستورية تاريخية، عكست توافقاً بين المسلمين وأهل الكتاب من أهل المدينة بل ومن بقى من وثنيها، على طريقة للعيش المشترك وتوزيع للأعباء ومساواة في الحقوق. وربما نعرض لنصوصها وأحكامها بالتفصيل في مقال لاحق.
لا تكتمل الحرية إلا بقيمة أخرى تُكملها وتضبط أثرها، وهي المسؤولية؛ فالحرية لا يُقيدها قيد، وإنما تضبط ممارستها المسئولية الشخصية التي تقتضي مسئولية الشخص عن أفعاله فقط. وهي مسئولية فردية مرتبطة بتصور يرى الجماعة الإنسانية بناءً من الأفراد، يمنحه الفرد الوجود والقيمة وليس العكس.
لا يرث الفرد ذنباً أو ميزة، بل يكتسبها بفعله؛ و"ألا تزر وازرة وزر أخرى، وأن ليس للإنسان إلا ما سعى" (النجم 38-39)، ولا يُدان لجريرة ارتكبها غيره، " كل نفس بما كسبت رهينة" (المدثر 38).
فلم يعد الفرد يتحمل خطيئة آدم ولا خطأ أبيه؛ لا يتحملها في الدنيا ولا يُسأل عنها في الآخرة، فقول الله قاطع في ذلك: "كل إنسان ألزمناه طائره في عنقه" (الإسراء 13)، والمقصود بطائره - كما قال ابن جريج - عمله.
يختلف هذا التصور عن ذلك الذي ينظر إلى الإنسان وكأنه لا وجود له إلا باعتباره جزءاً من جماعة، أو طرفاً في علاقة اجتماعية ما؛ فهو إما أب أو ابن أو جندي أو عامل أو غني أو فقير أو أمير أو خفير أو شرقي أو غربي أو غير ذلك.. وهو بهذا الوصف يصُبح موضوعا لمجموعة من القواعد المسبقة ومتحملاً لمسؤوليات عن أفعال لم يرتكبها، ومجبرا على العيش في لأوضاع ربما يرفضها، أو متفاخراً بانتماء لعائلة أو لفئة أو لمجتمع ليس له الفضل في تمتعه بميزاته.
تصور الإسلام جعل الفرد موجوداً منذ خلقه بمعزل عن كل العالم الذي حوله، وقبل دخوله في أي علاقات وقبل توصيفه بأي وصف اجتماعي "ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة" (الأنعام 94). فالإنسان ليس حيواناً اجتماعياً لا يوجد إلا بمجتمع ما فينصبغ بصبغة المجتمع؛ بل هو موجود قبل المجتمع، وهو من يمنح الجماعة الوجود ويحدد بإرادته وإرادة بقية الأفراد قواعد العيش فيها ويُضفي عليها من طبيعته.
من هنا تصبح إرادة الأفراد هي أساس شرعية كل نظام اجتماعي ولأي نظام سياسي، وتصبح الموروثات قابلة للتقيم وإعادة التقيم دائماً، ويُصبح الاختيار أساس الاعتقاد وأساساً التعاقد وأساس شرعية الحكم.
إذا أهدرنا التفسيرات التي ساقها فقهاء السلطان الذين برروا عسف الحكام فتجاوزا نصوصاً قاطعة الدلالة واضحة المعنى، فإننا سنكتشف أن الحرية والمسؤولية أهم القيم التي استثارها الإسلام في نفوس تابعيه، فكونتا معاً أساساً لإطلاق ملكات الفرد وسعيه للتعبير عن إرادته.
وما إهدار تلكما القيمتين في النظام السياسي في جزء مهم من التاريخ الإسلامي إلا ما حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم، فيما أورده أحمد في مسنده وغيره بسند حسن "تُنقض عرى الإسلام عروة عروة.. أولهن نقضاً الحكم وآخرهن الصلاة". فنقض تصورات الإسلام في الحكم العادل بدأ بالتفريط شيئاً فشيئاً في هذه القيم، حتى جاءت أجيال تعتمد تفسيرات ذهلت عن جوهر الإسلام ونصوصه الواضحة، لتقدمه دينا لا يُقدر الحرية ولا يعرف المسؤولية الشخصية، بل يتبنى أبناؤه تصورات غريبة تنفر من الحرية وترفض الاختلاف والتنوع وتعتبره كارثة، رغم إن ربنا في محكم آياته يجعله أساساً للحياة الإنسانية المشتركة "ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين" (118 هود).
ويرى البعض في الحرية خطراً على دينه أكثر من الاستبداد الذي يقبله بدعوى أنه أخف الضررين في تأسيس فاسد على قاعدة فقهية هي براء من رأيه. فالإسلام لا يقبل إلا مناخ الحرية ولا ينزوي إلا مع الاستبداد ولا يجري نقض عراه في القيم والفقه والأخلاق وغيرها إلا في أجواء كتلك التي تعيشها منطقتنا بين استبداد سلطة واستبداد رأي، فلا يذهب الاستبداد ولا يبقى الرأي.
أضف تعليقك