الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وصحبه ومن والاه ...
وبعد ...
فإذا كانت قضية المناخ والحفاظ على البيئة من القضايا الكبرى التي تنشغل بها دول العالم، وتُعقدُ لها المؤتمراتُ، وتتبارى في اقتراح الحلول لها الهيئات والمؤسسات، و تُكتب لها التوصيات، وتسن لها القوانين، فإنه من الأحرى بنا أن نعرضَ على الناس جميعا رؤيةَ الإسلام لعمارة الأرض وحماية البيئة وحفظ المناخ ... حتى يتسنى للبشرية كلها على اختلاف أجناسها وألوانها أن تنعم بحياة صحية كريمة فترة إقامتها المؤقتة على ظهر هذا الكوكب.
إنَّ الله تعالي خلق الإنسان وكرمه على سائر الخلائق، وجعله خليفةً له في أرضه، وحدد له غايتين عظيمتين لوجوده ... أولهما: أن يعبد الله تعالى ولا يشرك به شيئا (وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) سورة الذاريات الآية 56 ... والثانية: عمارة الكون (هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ ٱلْأَرْضِ وَٱسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا) سورة هود الآية 61... ومن أجل ذلك سخَّر له جميع قُوَى الأرض ومقدراتها وثرواتها (وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِى ٱلْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ) سورة الجاثية 13 ... وفصَّل ذلك في آيات كثيرة (ٱللَّهُ ٱلَّذِى خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِۦ مِنَ ٱلثَّمَرَٰتِ رِزْقًا لَّكُمْ ۖ وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلْفُلْكَ لِتَجْرِىَ فِى ٱلْبَحْرِ بِأَمْرِهِۦ ۖ وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلْأَنْهَٰرَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ دَآئِبَيْنِ ۖ وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ (32))سورة إبراهيم الآيتين 32 - 33.
وبين أنَّ هذه النعم والمقدرات موجودة بنسب دقيقة تحفظ التوازن الذي ينبغي أن يحافظ عليه الإنسان، فلا يبذر ولا يبدد (وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19) وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (20) وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) سورة الحجر الآيات 19,20,21 ... وأمر الإنسان أن يستثمر هذه المقدرات على أفضل وجه ... فيصلح الأرض البوار، وينشر الخضرة والنماء، وينعم بثمارها ويشرك فيها الحيوان والطير وكافة الكائنات (ما من مسلم يغرس غرساً آو يزرع زرعاً فيأكل منه طيرٌ أو إنسانٌ أو بهيمة إلا كان له صدقة) رواه مسلم .. (إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَفِي يَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا تَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَغْرِسْهَا) رواه البخاري .. (من أحيا أرضا ميتة فهي له) رواه أبو داود والترمذي.
واعتبر الإسلام اخضرار الأرض رحمة (فَٱنظُرْ إِلَىٰٓ ءَاثَٰرِ رَحْمَتِ ٱللَّهِ كَيْفَ يُحْىِ ٱلْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَآ) سورة الروم الآية 50... والنظر إليها متعة نفسية وبهجة (فَأَنۢبَتْنَا بِهِۦ حَدَآئِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍۢ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنۢبِتُواْ شَجَرَهَآ) سورة النمل الآية 60 ... (وَأَنۢبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍۢ) سورة ق الآية 7.
إن (الجمال) مقصود في خلق الله مع (الكمال) ... ومطلوب من الإنسان أن يحافظ على البيئة يعيش فيها بجمالها وكمالها ومقدراتها وأرزاقها ... وأن يُصلح ولا يٌفسد، وأن يُنمِّي ويُزيد ولا يُنقِص (وَكُلُواْ وَٱشْرَبُواْ وَلَا تُسْرِفُوٓاْ ۚ إِنَّهُۥ لَا يُحِبُّ ٱلْمُسْرِفِينَ) سورة الأعراف الآية 31 ... (وَلَا تُفْسِدُواْ فِى ٱلْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَٰحِهَا) سورة الأعراف الآية 56.
وقد تميزت المدن والعواصم الإسلامية في فترة ازدهار الحضارة الإسلامية - لأكثر من عشرة قرون - بجمالها وحسن تنظيمها وصفاء جوها ونقاء مناخها وطهارة بيئتها،وكانت نظم البناء مثالاً يحتذى في احترام الخصوصية، وحق الجوار، ومراعاة الارتفاعات والتهوية، والاستفادة من أشعة الشمس، ولا زالت حواضر الأندلس في قلب أوروبا تشهد بذلك حيث انتشر منها حب الجمال والنظافة إلى كافة أنحاء القارة.
إنَّ أكثر من ينادون بالحفاظ على البيئة والمناخ اليوم هم من يساهمون في تدميرها، ويتنافسون في استهلاك كنوز الأرض، وتوليد النفايات، وصرف مخلفات المصانع في الأنهار والمحيطات مما يفسد مياه الشرب ويهلك الأسماك والحياة البحرية، فضلاً عن سباقات التسلح وإشعال الحروب وما ينتج منها من تلوث إشعاعي وكيميائي وبيولوجي ونووي وما يُنتج كل هذا من احتباس حراري يهدد الحياة على كوكب الأرض ... والدول الكبرى والعظمي لها في ذلك أكبر النصيب ... فَمِن تدمير هيروشيما وناجازاكي بالقنابل النووية، وتدمير العراق وأفغانستان باليورانيوم المخصب، وإجراء التجارب النووية على الأحياء في الجزائر، وتجربة كل سلاح مميت على أرض أوكرانيا، وما زالت تنفث مصانع هذه الدول الكبرى كل لحظة الأطنان من الغازات والنفايات وتدفنها سراً أو جهراً في أراضي وصحاري الدول الفقيرة ... ولا تزال آثار كل هذا تؤثر في الأرض والبيئة والبشر والمناخ.
وإذا كان الله خالق الكون قد حرم علينا إفساد الحجر والشجر .. فمن باب أولى تحريم الاعتداء على الإنسان، وحريته، وكرامته، وخصوصياته، واحتياجاته الأساسية.
أليس من المستغرب أن يُعقد مؤتمر المناخ السابع والعشرين هذا العام في بلد تُنتَهك فيه حقوق الإنسان ويُحْرَم فيها من كل مقدرات الحياة ... أكثر من ستين ألفاً من البشر في هذا البلد شباباً وشيوخاً، ورجالاً ونساءً بل وأطفال، أطباء ومهندسون، رجال أعمال وعلماء في شتى العلوم - ومنهم علماء في البيئة والمناخ !! - ... كل هؤلاء يُحشرون في زنازين ضيقة قذرة ملوثة، ولا يجدون طعاماً لا شراباً ولا دواءً ولا حتى الهواء النظيف لمدة تسع سنوات عجاف، فضلاً عن الذين ماتوا مرضى ومعذبين ومشنوقين ومسمومين ... يحدث ذلك على مرأى من العالم المتحضر المنادي بالحفاظ على البيئة والمناخ.
في هذا البلد .. بُنيت عشرات السجون بدلاً من المدارس والمستشفيات ... وتُنفق مليارات الدولارات لرفاهية طبقة حاكمة طاغية على حساب الملايين من أبناء شعبٍ محروم من أدنى حقوقه الإنسانية كما هو محروم من بيئة نظيفة صحية.
إن جماعة (الإخوان المسلمون) تهيب بالعالم المتحضر أن يحافظ على الإنسان أولاً ... حقوقه وحريته وكرامته ... جنباً إلى جنب مع الحفاظ على بيئة صحية، وشراب صافي، وهواء نقي، وطعام صحي، ودواء صالح.
نهيب بالدول الكبرى أن تتحمل مسؤوليتها الكاملة في معالجة تلوث البيئة والمناخ، فهي أول المتسببين فيه وهي القادرة على التخفيف من آثاره، وحماية الأجيال القادمة من كافة أجناس الأرض.
كما نهيب بها وبالأمم المتحدة كمنظمة معنية بحقوق الإنسان أن تضغط على النظم الغاشمة والظالمة لتحرير البشر المحبوسين في أسوأ بيئة وأقذر مناخ كي ينعم الجميع بالحياة الحرة اللائقة بأكرم مخلوق خلقه الله رب العالمين.
إننا ندعو البشرية جميعاً أن تشكر خالقها لما خلق لها من خيرات الأرض ومقدراتها وثرواتها، وأن تستفيد من ذلك في اعتدال واقتصاد، وأن تتجنب الإضرار بالبيئة والمناخ حماية للحاضر والمستقبل.
(وَلَا تُفْسِدُواْ فِى ٱلْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَٰحِهَا وَٱدْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا ۚ إِنَّ رَحْمَتَ ٱللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ ٱلْمُحْسِنِينَ).
و صلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
إبراهيم منير
نائب المرشد العام لجماعة (الإخوان المسلمون) والقائم بالأعمال
الجمعة 10 ربيع ثان 1444 هــ؛ الموافق 4 نوفمبر 2022 م
أضف تعليقك