بقلم: فاروق مساهل
منذ أسابيع قليلة أنعمت ملكة بريطانيا برتبة "الإمبراطورية البريطانية" (MBE) على مهاجم نادي "مانشستر يونيتد" لكرة القدم "ماركوس راشفورد"، وحذت "جامعة مانشستر" حذوها فمنحته درجة الدكتوراة الفخرية، وذلك على خلفية نجاحه في تنظيم حملة قومية تهدف لاستمرار الدولة في تقديم الوجبات الغذائية المجانية لتلاميذ الأُسر ذات الدخل المحدود أثناء توقّف المدارس والمصالح بسبب انتشار وباء كورونا.
ولقد ذكّرني هذا الموقف بما كانت عليه الحال في المدارس المصرية إبان الحكم الملكي، حيث كان ملحقا بكل مدرسة ابتدائية مطبخ للطعام يقدّم وجبة غداء ساخنة لكل التلاميذ؛ تتضمن ما يحتاجه جسم الطفل من عناصر غذائية وسعرات حرارية تكفيه ليوم كامل (يحتاج الطفل النشط في الابتدائي لأكثر من ألفي سعر حراري يوميا). لكن الوضع تغيّر بعد استيلاء العسكر على مقاليد الحكم في مصر، فاستبدل عبد الناصر البسكويت بالوجبة الغذائية، والذي سرعان ما شهد تنافسا إجراميا بين الموردين، حيث كانوا يدسّون فيه شرائح الأمواس نكاية في بعضهم فتدمي منها أمعاء الصغار، فكان فرصة للحكم العسكري لإلغاء الوجبة الغذائية المدرسية برمتها.
ومع استحواذ الجيش المصري على معظم النشاط الاقتصادي في مصر، فقد اعتمد الكيان الانقلابي الحالي مبلغ تسعة مليارات جنيه للتغذية المدرسية، ليحصل كل تلميذ عادة على قطعة بسكويت سادة أو بالتمر وخبز ومثلث جبن وعلبة لبن أو عصير، وكلها تشتمل على حوالي خمسمائة سعر حراري تغطي ٢٥ في المائة من الاحتياجات الغذائية اليومية للتلميذ.
ولقد تزامن احتكار الجيش للوجبة المدرسية - وبالذات بعد تولي شركته "سايلو فودز" - مع حوادث التسمم الغذائي بين التلاميذ في أربع محافظات حتى الآن، كان آخرها في مدينة الأقصر في اليوم التالي لإعادة افتتاح السيسي لطريق الكباش؛ في مهرجان باذخ لا تخطئه العين من البهرجة وانعدام الفائدة.
ومنذ انقلاب الجيش عام ١٩٥٢م اتخذ العسكر أطفالنا عدوا لهم، حيث نصبوهم مقابل أعينهم، مشيعين أنهم السبب في تدهور الأوضاع الاقتصادية في وقت كانت مصر تدين فيه بريطانيا بمئات الملايين من الجنيهات. وقام عبد الناصر بإلحاق قسم "تنظيم الأسرة" برئاسة الجمهورية ليباشره بنفسه، وبدأت ثقافة تخفيض أعداد المواليد تنتشر بين المصريين. وأول خطاب عام لحسني مبارك كان عن كيف سيُطعم الشعب إذا كان يأتيه "مليون عفريت" كل عام!
ولقد فاق عبد الفتاح السيسي أسلافه العسكريين في القسوة والغلظة ضد أطفال مصر، فهو لا يتوقف وإعلامه عن الحديث وتوجيه مسؤولي الصحة عن خفض إنجاب المصريين، وبدأ فعلا بمحافظات الوجه القبلي. ومع تجميد الرواتب والغلاء الكبير في الأسعار والارتفاع في الضرائب وكثرة الجبايات وصعود نسب البطالة لأرقام مخيفة، فإن أوضاع المصريين عامة أضحت تتّسم بالبؤس والمعاناة، وصاحبها انتشار فقر الدم وسوء التغذية والتقزّم في الأطفال، فكان تطبيقا حرفيا لمقولة أن شعبنا لم يجد من يحنو عليه، ولم يعثر أطفالنا على من يمنحهم الرعاية الواجبة ويدخل عليهم البهجة.
ويعلم المصريون والعالم أجمع كيف يقوم تاسع جيش في العالم ومعه الآلاف من الشرطة ومثلهم من الرعاع المسلحين (البلطجية)؛ بقتل أبناء شعب مصر دون ذنب أو جريمة ودون مراعاة لأيّ عواقب محتملة، وكيف أن معظم جرائم العسكر هذه تتم في حضور الأطفال وأمام أعينهم، وخاصة عند فجر الليالي التي يداهمون فيها بيوت المواطنين المسالمين.
ولا تزال صرخات الطفل "رمضان إبراهيم" عالية مدويّة مناديا على أمه: "اصح يا ماما"، وهي تحتضر أمامه بعد تلقيها رصاصة من عسكري مجرم غادر أثناء فض رابعة. ولأول مرة في التاريخ يحكم كيان السيسي على طفل مصري عمره أربع سنوات بالمؤبد بتهمة الإرهاب، وعلى 21 تلميذة من "بنات سبعة الصبح" بالحبس 11 عاما لكل منهن (أفرج عنهن بعد ضغط عالمي). ويوجد حاليا أطفال في سجون السيسي، وتفخر عصابته بتجهيز أجنحة وحضّانات حديثة، في آخر إنجاز للسيسي بمجمع سجون وادي النطرون المتوقع افتتاحه قريبا في صحراء مصر الغربية.
ويتحدث المصريون عن البلاء الفظيع تحت حكم السيسي، ألا وهو مصيبة خطف الأطفال الذي يجري على مدار الساعة في كافة أرجاء المحروسة، ولا يحدث مثله مطلقا في أي بلد في العالم. وسببه الأول هو التجارة في أعضاء الأطفال بعد قتلهم، ونسبة منه للتسول وأخرى لطلب الفدية. ولم يصدر عن كيان الانقلاب ما يطمئن العائلات أن الجهات الأمنية تهتم بسلامة الأطفال، سواء بمحاربة العصابات المنظمة ومن يساندها، أو بزيادة دوريات الشرطة ورجال المباحث في الأحياء والأسواق للتضييق على عصابات الاختطاف أو إجهاض جرائمها.
وعلى غير عادته، فإن عبد الفتاح السيسي أوفى بوعده ونفّذ شعاره الوحيد أثناء "حملته الانتخابية": "حتدفع يعني حتدفع"، فبدأ برفع الدعم عن كل السلع الضرورية التي يستفيد منها غالبية المصريين. وهو مصرّ على إقناع الشعب بأنهم "فقراء.. فقراء أوي"، لكي يعفوه من القيام بأي إنجاز أو إنشاء مشروع يعود بالنفع على البلاد والعباد، وحينما تمت مواجهته بأنه يبني القصور الفارهة لنفسه ولعائلته، كان ردّه يتصف بالتحدي والبجاحة بأنه لن يتوقف عن بناء القصور الرئاسية؛ رغم انتقاد الشعب له بتبني مشاريع ارتجالية وكذلك التفريط في ثروات مصر، مثل تفريعة قناة السويس والتنازل عن غاز شرق المتوسط للكيان الصهيوني والاستدانة التي لا تتوقف، وأطنان ذهب المناجم ذات المصير المجهول، والطائرات الرئاسية الفخمة المتنوعة، بجانب حرصه الشديد على أن يردد أينما يحلّ أن مصر ليس فيها تعليم ولا علاج.
فلقد باغتنا السيسي وأذنابه وصعقونا ذات صباح بسلسلة من صور تبيّن تلاميذنا داخل الفصول المدرسية جالسين القرفصاء مباشرة على البلاط، أو مكدسين على التخت البالية، وكل ما فعله بعد ذلك وزير التعليم الانقلابي أن منع التصوير داخل مدارس مصر. ويعلم المصريون أن المدارس الثانوية مغلقة حاليا، وعلى التلاميذ الالتحاق بمراكز الدروس الخصوصية مقابل مصاريف باهظة. فليس فقط تنصّل السيسي من الصرف على التعليم، بل يحصّل من التلاميذ رسوم تسجيلهم في المدارس المغلقة للسماح لهم بدخول امتحانات آخر العام، ثم يستدير على مراكز الدروس الخصوصية يقتطع من ميزانياتها ما يشاء باسم الضرائب.
وإذا كان السيسي لم يوفّق في دراسته في الصغر وبالذات في الإلمام باللغة العربية، وبالخاصة من مصدرها وهو القرآن الكريم، أفلم يكن جديرا به الطلب من مسؤولي التعليم الاهتمام بتعليم الأطفال القرآن ولغته لتحسين ملكات التحدث والتخاطب بل والانتماء؛ بدلا من تشجيع الفاشلين والجهلة وأراذل الإعلاميين ونواب البرلمان ليتبنوا مهاجمة ما افتقده في طفولته؟
ولا يفوتنا في هذا المقام أن نوضّح أن أطفال العسكر بحسب درجاتهم ورتبهم ومن يدور في فلكهم؛ يحظون بالتدليل والرفاهية والامتيازات والثروات والمناصب والأولية، في كل ما يعود عليهم بالنفع والتمتع في حياتهم، ابتداء من ذرية عبد الناصر ووصولا لأولاد السيسي.
إن امتهان وشقاء أطفال مصر يقع على آذان صمّاء للمسؤولين وقيادات الجيش وأذنابهم، وتصرّف العسكر مع أطفالنا يضاهي معاملة الصهاينة الذين بأيديهم قاموس من فتاوى حاخاماتهم؛ تأمرهم بقتل أطفالنا (مصريين وعرب) لكيلا يكبروا ويحاربوهم، فكان تدمير مدرسة بحر البقر وبداخلها تلاميذنا. ولم يتوقف قتل الأطفال الفلسطينيين، بدءاً من تواجدهم في بطون أمهاتهم في دير ياسين إلى أثناء لعبهم مع أقرانهم على الشواطئ أو في الشوارع.
مع كل تلك الأزمات فإن غالبية شعب مصر تتطلع لليوم الذي يسقط فيه كيان السيسي الاستبدادي، ويحاسب فيه كل من أفسد جوانب حياة المصريين وهوى بها إلى قاع الدول. فجماهير الشعب قد بلغت النضج ووعت الدرس، وعزمت على استرداد حريتها وإدارة شؤونها وامتلاك ثرواتها وتقرير مصيرها، ووقتها تحصل كل فئة من الشعب - الرجال والنساء والأطفال - على حقها ومكانها وقدْرها.
أضف تعليقك