إن من أعظم مصادر قوتنا- نحن المسلمين- ذلك الرصيد الضخم من التجارب البشرية الراقية، تلك النماذج التى ارتقت، فبلغت مستوى من التفرد الحضارى الشامل، يستحيل العثور على مثله، أو ما يدانيه، فى أى حضارة من حضارات البشر، فى القديم والحديث، إنهم بشر لم تتغير طبيعتهم، ولم يدَّعِ أحدٌ لهم قداسة، ولم تخلع عليهم غير صفات البشر، ولم ترو عنهم أساطير وخرافات يأباها العقل السليم، بل كانوا بشرًا، مثل كل البشر، لكنهم تميزوا وفاقوا الناس جميعًا، فى كل محاور الحياة.
وإن من أولى من نتعلم منهم من بين الصحابة الكرام الشيخان العظيمان أبو بكر وعمر، سيدا صحابة رسول الله وأقرب الناس إليه، ووزيراه، ومستشاراه، اللذين صدق وصح فيهما قول مربيهم الكريم صلى الله عليه وسلم: (فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، تَمَسَّكُوا بِهَا، وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ).
ولا ريب أننا نحتاج لأن نتعلم ديننا من مثل هذه النماذج الحية، الذين رضى الله عنهم ورضوا عنه، وتعلموا مباشرة من رسولنا العظيم صلى الله عليه وسلم، ونحتاج أن نقابل ونقارن مبادئ الكتاب والسنة بأفعال الرجال، ونرى مدى نجاحهم فى تمثل تلك القيم، وقدرتهم على التطبيق العملى، ومدى واقعية ما نسمع عنه فى الوحيين المقدسين، من مبادئ وقيم. فهيا بنا نعيش بين هذين الرجلين، فى موقف حفظته لنا كتب السنن، نتدارس ما بينهما ونتعلم منهما!
يروى أبو الدراء رضى الله عنه فيقول: كانت بين أبى بكر وعمر -رضي الله عنهما- محاورةٌ، فأغضب أبو بكر عمر؛ فانصرف عنه عمر مغضباً، فاتبعه أبو بكر يسأله أن يستغفر له، فلم يفعل حتى أغلق بابه في وجهه، فأقبل أبو بكر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسلم وقال: إنه كان بينى وبين ابن الخطاب شيء فأسرعت إليه (يعنى أغضبته)، ثم ندمت، فسألته أن يغفر لي، فأبى عليَّ، فأقبلت إليك، فقال: يغفر الله لك يا أبا بكر (ثلاثًا)، وذلك إشارة إلى خطئه.
ثم إن عمر ندم على ما كان منه فأتى منزل أبى بكر، فسأل: أثمَّ أبو بكر ؟ فقالوا: لا. فأتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلما سلم عمر وجلس، جعل وجه النبي صلى الله عليه وسلم يتمعر- (يحمر من الغضب) وغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجلس عمر فأعرض عنه النبى صلى الله عليه وسلم- ثم تحول فجلس إلى الجنب الآخر فأعرض عنه النبى صلى الله عليه وسلم - ثم قام فجلس بين يديه فأعرض عنه النبى صلى الله عليه وسلم - فقال عمر: يا رسول الله! ما أرى إعراضك إلا لشيء بلغك عني، فما خير حياتي وأنت معرض عني؟ -أي: أيُ خيرٌ لي في هذه الدنيا وفي هذه الحياة إذا كنت معرضاً عني- فقال: أنت الذي اعتذر إليك أبو بكر فلم تقبل منه.
ولما تمعر النبي صلى الله عليه وسلم أشفق أبو بكر أن يغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم على عمر، فيصيبه من ذلك ما يكره، فجثا أبو بكر- أي: برك- على ركبتيه، يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: والله أنا كنت أظلم، وقال ذلك؛ لأنه كان هو البادئ، فجعل أبو بكر يعتذر حتى لا يجد النبي صلى الله عليه وسلم في نفسه على عمر .
فقال عمر: والذي بعثك بالحق ما من مرةٍ يسألني إلا وأنا أستغفر له، وما خلق الله من أحدٍ أحب إليّ منه بعدك، فقال أبو بكر: وأنا والذي بعثك بالحق كذلك.
إنه الإسلام العظيم! يتمثل فى طبيعة بشرية راقية، ونفوس ملك أصحابها زمامها، فسلست لهم، فقادوها إلى المعالى، إنهم بشر مثل البشر، يخطئون ويصيبون، يحلمون ويغضبون، ويعترفون بأخطائهم، ويعتذرون، يقبلون عذر بعضهم أحيانا، وأحيانا لا يقبلون، لكنهم على بعضهم البعض حريصون كل الحرص، يبلغ حب أحدهم لأخيه ما قد رأينا من أبى بكر وعمر- رضى الله عنهما، وعن كل الصحابة أجمعين، وجمعنا بهم، ويسر لنا أن نتخلق بأخلاقهم، ونقدم من النماذج مثل ما قدموا.
أضف تعليقك