يستعد عبد الفتاح السيسي لاستقبال الرئيس الأكثر تطرّفًا من رؤساء حكومات الاحتلال الصهيوني، نفتالي بينت، بعد أن وجّه له دعوة زيارة مصر عن طريق ظله وكاتم أسراره ومدير مخابراته عباس كامل.
نفتالي بينت هو ممثل الدولة الدينية الصهيونية، كما يوصف داخل إسرائيل وخارجها، كونه وصل إلى رئاسة الحكومة محمولًا على أكتاف ائتلافٍ من الأحزاب الدينية والمتطرفة، أبرزها الليكود، وشاس، وحزب الصهيونية الدينية، وحزب يهدوت هتوراة.
اليسار الصهيوني نفسه تحدّث عن فوز بينت برئاسة الحكومة باعتباره خطوة على طريق إنشاء نظام الصهيونية الدينية.
يحارب السيسي ما يسمّى "الإسلام السياسي" في مصر والبلاد العربية، في اللحظة التي يرحب فيها بالصهيونية الدينية السياسية، ويصادقها ويحالفها ويشاركها، ويدعو رمزها لزيارة مصر، لكن ذلك كله لم يمنع من تمنحه صحافة السيسي وصف "المفكر السياسي"، مصطفى الفقي، من الكلام عن عبد الفتاح السيسي باعتباره محمد علي الجديد، الذي يتآمر الغرب على مشروعه الكبير لإنشاء مصر العظمى.
ليس ثمّة شك في أن مصطفى الفقي يعلم جيدًا أن إنشاء الكيان الصهيوني الذي لا يترك السيسي مناسبة إلا ويتحدّث عن حرصه على بقائه والتزامه بأمنه وأمانه، كان بهدف القضاء على مشروع محمد علي الذي نما وتمدّد وتوسع، حتى صار مزعجًا للإمبراطوريات الأوروبية القديمة، فقرّرت التحرّك للقضاء عليه وتدميره، قبل أن يرث الإمبراطورية العثمانية المريضة، وينشئ دولته.
في التأريخ للحركة الصهيونية العالمية، والدول الداعمة لها، لا يغيب البعد الاستراتيجي في دوافع أوروبا لإنشاء وطن لليهود في فلسطين، ليس حبًا في اليهود واليهودية، وإنما كرهًا في محمد علي، وإصرارًا على تدمير مشروعه وهدم دولته، المنطلقة من مصر متمدّدة في الحجاز والشام، وهي الفكرة التي اختمرت في ذهن نابليون بونابرت، ثم تلقفتها بريطانيا وبدأت في تنفيذها بعد أكثر من أربعين عامًا: زرع كيان سياسي يكون حاجزًا جغرافيًا وبشريًا بين مصر ومجال توسعها في آسيا.
وهكذا انطلق البيان التأسيسي الأول للكيان الصهيوني من صحيفة التايمز البريطانية في 24 يناير/ كانون الثاني 1839 بمبادرة استعمارية عنوانها "حق الشعب اليهودي في العودة إلى فلسطين". ومن المفارقات، كما يقول المفكر المصري الراحل لطف الله سليمان في كتابه "فلسطين .. نحو تاريخ بلا أساطير" أن اليهود في ذلك الوقت لم يكونوا يفكرون في هذا الأمر، الذي ترجمه اللورد بلفور إلى وعد فيما بعد .. إذن هي الاستراتيجية البريطانية التي رأت أنه لا بد من كيان صهيوني لمنع قيام إمبراطورية جديدة مركزها مصر، ومن ثم يجب الإجهاز على مشروع محمد علي.
ذلك كله يعلمه بالضرورة مصطفى الفقي وغيره من سياسيين ومثقفين يعربدون في خرائب التاريخ، ويسكبون في عقول الأجيال الحالية والقادمة سخائم وأكاذيب، ويرسمون صورًا للسيسي، البطل الأسطوري الذي يشبّهونه بمحمد علي الذي اخترعوا إسرائيل من أجل القضاء عليه، بينما إسرائيل نفسها تذهب إلى أبعد منهم في الإشادة والرعاية والدعم والاحتضان الكامل لذلك البطل الأسطوري الذي يعدّه الصهاينة هدية من السماء للشعب اليهودي.
تنشر الشروق على لسان "المفكر السياسي" مصطفى الفقي في حوار متلفز مع "المفكر الإعلامي" أحمد موسى إن "مصر تحملت الاستفزازات الإثيوبية ولم تنجرف وراء عمل عسكري كانت تتمناه إثيوبيا، موضحًا أن العالم الغربي لا يريد "محمد علي جديد" في مصر، كما أن أمريكا لا تريد معلمًا جديدًا في المنطقة".
ثم يأتي بقفزة رشيقة وواثقة على حلبة التاريخ متنقلًا بالسيسي من نموذج محمد علي إلى نموذج صدّام حسين، فيضيف "أمريكا تريد لك حدود متتعدهاش ثم تستدرجك للحرب، كما حدث عندما أعطت واشنطن الضوء الأخضر لصدام حسين لغزو الكويت ثم كسرت رأسه، كما أنه لن يترك أحد لك الفرصة للقيام بعمل عسكري في ملف السد الإثيوبي".
حالة مصطفى الفقي هي حالة المثقف القومي، السابق، الذي قرّر أن يستبدل جلده، بآخر أكثر سماكة، موهمًا نفسه بأن في ذلك أمانه، وبدلًا من أن ينطق بكلمةٍ ضد هذا الانحدار الهائل إلى قاع التطبيع والتحالف مع اليمين الصهيوني في حرب على الإسلام السياسي، الذي جعلوه مرادفًا للإرهاب، فإنه يغمض عينيه عن اللحظة الراهنة، ويركض للاختباء في دهاليز التاريخ، يستخرج منها مقارنات فاسدة واستدلالات معطوبة، يلاطف بها الوالي العسكري الجديد الذي لا يرحم.
الصياح ضد التطبيع، والتنديد بالعلاقات الدافئة بين القاهرة والكيان الصهيوني، وإبداء الامتعاض والقرف من استقبال قادة الاحتلال، كانت تمثل حدود ما يمكن تسميتها "المنطقة الآمنة" في المعارضة المصرية، حتى زمن حسني مبارك، عندما كان مسموحًا بالصراخ ضد التطبيع والهتاف ضد زيارات حكام العدو الصهيوني، إلى الحد الذي كانت مانشتات الصحف الخاصة وتلك التي تسمى "المستقلة" تستخدم عناوين أشبه بعبوات حارقة لوصف العار الذي يلحق بالسلطة الحاكمة لاستقبالها قتلة الشعوب.
هده المساحة الآمنة لم يعد مسموحًا بها في زمن عبد الفتاح السيسي، كما لم يعد الصمت والصهينة على زيارات التطبيع ومد خطوط الغاز يكفيان لجلب الراحة والأمان، إذ بات مطلوبًا ولازمًا أن يتحوّل المرء إلى "مصطفى الفقي"، يرى السلطة تتفانى في إظهار المودة لقادة المشروع الصهيوني، ولا تتوقف عن التعبير عن التزامها بالشراكة والتحالف معها، ولا تكف عن تقديم نفسها للبيت الأبيض وللغرب الأوروبي على أنها الحارس الأمين والجندي المطيع، الذي يقف متوثبًا جنوب المتوسط لحماية أوروبا من المهاجرين الأشرار..وبعد كل ذلك، وبالرغم من كل ذلك لا يخجل من مقارنة مشروع هذه السلطة بمشروع محمد علي، الذي حاربته أوروبا بإسرائيل.
هل هي المصادفة التي جعلت كل الأعداء التاريخيين لمشروع محمد علي، من العرب، مع السيسي في صفٍّ واحد مع الكيان الصهيوني الآن؟
أضف تعليقك