بقلم : وائل قنديل
كل وسائل الإعلام التابعة لنظام عبد الفتاح السيسي اشتغلت باستفاضةٍ على موضوع طفل عمره 15 عامًا استخدم معه رئيسه في العمل بمخبز آلي في قرية بأسوان أحط أنواع الساديّة فألقاه داخل ماكينة عجن الطحين (العجّانة) ثم قام بتشغيلها حتى تكسّرت عظام الطفل.
هذا بالضبط ما يفعله السيسي بالمواطن المصري، من دون زيادة أو نقصان، حيث تقبع مصر كلها في "عجّانة" هائلة من القرارات الاقتصادية والممارسات الأمنية القمعية، من دون أن يسمع صراخها أو يهرع لإنقاذها أحد.
يأتي حادث "طفل العجانة" بالتزامن مع حزمةٍ من القرارات الشخصية للسيسي بزيادات أخرى جديدة في أسعار تذاكر مترو الأنفاق، وتقليص حجم رغيف الخبز، وسيلة مستحدثة لرفع سعره، وهي الزيادة التي تُضاف إلى زيادات مضطردة في أسعار الخدمات الأساسية على نحو غير مسبوق.
الصحف والفضائيات التي توسعت في نشر تفاصيل الجريمة، استخدمت في وصف ما جرى تعبيراتٍ مثل "النازية" والسادية في وصف مرتكب الواقعة، من دون أن تحدّد دوافعه لارتكاب الجريمة، إلا بالذهاب إلى تركيبته الشخصية السادية التي تجعله يستمتع بتعذيب وإيذاء الأضعف منه، الواقع تحت سلطته.
في التفاصيل أن الطفل الصغير الذي يعمل في أثناء العطلة الصيفية لمساعدة والدته في نفقات المنزل، بعد انفصال والده عنه وزواجه بأخرى، حمله جاره (35 عامًا) الذي يعمل في المخبز ذاته عنوة ووضعه بإناء العجين بالخباز الآلي، بحسب لقطات لكاميرا المراقبة بحوزة النيابة العامة، فأحدث به إصابات جسيمة أخطرها قطع في الحبل الشوكي، وكسور في الفقرات والضلوع وأصابع اليدين، وأنقذه بعض المارّة من موتٍ محققٍ بعد أن سمعوا صرخاته.
لو ألقت الصحف التي تفاعلت مع مأساة طفل العجّانة نظرة بالعين المجرّدة على ما يدور لاكتشفت أن مصر تحولت إلى عجّانة هائلة يتحكّم في تشغيلها شخصٌ ساديٌّ مثل ذلك الشخص الذي كاد يجهز على حياة الطفل، وهو يستمتع بتعذيبه ويطرب لصرخاته، ولعرفت أن الغالبية العظمى من المواطنين تتكسّر عظامهم وتتهشّم فقراتهم كل يوم تحت تروس آلة القمع الأمني والتوحش الاقتصادي والسادية السياسية.
وإذا كان الطفل الضحية قد امتلك الشجاعة، لكي يصرخ ويعبر عن ألمه ويطلب النجدة، فإن مصر، بإعلامها ونخبها وأحزابها السياسية وقواها المجتمعية، لم تعد تمتلك القدرة على الصراخ أو الهتاف أو حتى الشكوى من الوجع، وكأنهم نجحوا في استئصال حنجرتها، وأشبعوها عجنًا وضربًا، حتى غدت لا تستشعر الألم، أو أنها تكيّفت معه، فصارت لا تأبه بأن يزيد أو ينقص.
في ظروف أقل وطأةً مما يعيشه المصريون الآن كان تحريك سعر أي سلعةٍ كفيلًا بتحريك دوائر من الغضب والاحتجاح، تأتي، في حدّها الأدنى، على هيئة بياناتٍ ناريةٍ من أحزاب اليسار، بشكل خاص، والأحزاب عمومًا، ترفض وتدين وتطالب برفع المعاناة عن كاهل الجماهير، وتحذّر من انفجار الغضب الشعبي.. الآن صارت هذه الأحزاب جزءًا من العبء الملقى على كاهل الجماهير، بل أنها تتغذّى على لحم أكتاف الجماهير، ولا تمارس من العمل السياسي سوى رقصاتٍ خليعة في صالون السلطة.
ينطبق الأمر ذاته على حالة الخرس التي أصابت الأحزاب الناصرية والقومية، وما تسمى الكتلة المدنية، أشخاصًا وكيانات، وهي تتابع مشاهد العري التطبيعي بين أبو ظبي وتل أبيب، وتحالفهما الشرير ضد الشعب الفلسطيني، فلا تجرؤ على إصدار بيانٍ واحد يتيم يسجل رفضًا، ولو خجولًا، للهرولة والانبطاح، ذرًا للرماد في العيون.
السياسيون الذين كانوا يختنقون صراخًا وهتافًا ضد التطبيع، ويقولون لحسني مبارك "نحن نتقيأك" قرفًا من تمسّكه بالتطبيع، والصحافيون الذين كانوا يسلخون ياسر عرفات ومحمود عباس بألسنتهم مع كل طلعة شمس، بعد توقيع اتفاقية أوسلو، تبخّروا والتزموا جحورهم وأشجارهم وهم يتفرّجون على الرقصة الإماراتية الخليعة فوق مسرح إسرائيل.
لقد دخلوا جميعًا باختيارهم في عجّانة السيسي، وكلما انكسر لهم ضلع، أو عين، طلبوا المزيد، وكأنهم استعذبوا الإهانة الوحشية، فانخفضت قاماتهم إلى ما تحت كعب الطفل الذي امتلك جسارة الصراخ ضد الألم.
هؤلاء، مع الأسف الشديد، وقود العجّانة، ومن ضحاياها في الوقت ذاته.
أضف تعليقك