بقلم: أحمد مجاهد
إلى مَن أبعده الأسر بجسده، لكن روحه معنا، ونهجه قائم فينا.. إلى مَن لم يرهبه القيد يومًا، ولم تفزعه ميليشيات زبانية العسكر أو أفزعته فتجرع ذلك وصبر على بلاء الظلم ولأواء الأسر.. إلى كل معتقل من أجل كلمة نبيلة وهدفٍ سامٍ شريفٍ ورسالة غاية في الشرف ومبدأ جدير بالحياة عليه والموت في سبيله.. إلى مَن أحبه الله فهو (إذا أحب عبدًا ابتلاه).
إلى مَن جعل الله غايته، والجهاد سبيله، والموت على الشهادة أسمى أمانيه.. إلى أشرف مَن حملتهم أرضنا.. إلى الأسرى من أجل حرية الأمة وإعلاء كلمة الله في أرضه..
لماذا اعتقلوك؟
"السجن في مصر كالموت يأتي بغتة، وقد يكون مسببًا أو لا" كلمة قالها لي والدي حين سألته عن سبب اعتقاله، لكني أدركتُ بعد ذلك أنه ابتلاء، فالمعتقلون في بلادنا وللأسف ليسوا من المجرمين والسارقين؛ بل هم من الأشراف الذين بذلوا الغالي والنفيس من أجل نصرة هذا الدين، والابتلاء من علامات محبة الله لعبده ودليل على علاقة ربانية، ولقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يقلقون إذا تأخَّر عنهم الابتلاء؛ فهو اختبار صبر، وقوة إيمان، فرفعة في الدرجات، أو تكفير ذنب في الدنيا فمحو للسيئات والزلات.
فلتنظر إلى رحمةِ الله بكَ، فلقد اختارك ليقوّمك أو ليرفع في درجتك، فما أعظم النعمة التي حباك الله بها، فلعله قد أعدَّ لكَ منزلةً في الجنةِ لن تبلغها بأعمالكَ قبل الاعتقال، وبصبرك على هذا الابتلاء ستصل إليها بإذنه تعالى.
واصبر وما صبرك إلا بالله
وليكن قدوتك في هذه المحنة بلال وآل ياسر، وتذكر رحلته صلوات ربي وسلامه عليه إلى الطائف وهجرة المهاجرين وتركهم أموالهم وديارهم من أجل نصرة هذا الدين، فطريق الدعوة إلى الله قد يملأ بالشوك للناظرين إليه، ولكنه في حقيقته طريق إلى النعيم لا يستشعر لذته إلا المؤمنون وطريق الدنيا الفانية نعيم في ظاهره آخره جحيم.
وليكن زادك في صبرك أنك لبنة تُوضع لبناء صرح عظيم، فلو لم يكن بلال نطق بـ"أحد" لما وصل إليك هذا الدين العظيم، ولو لم يصبر ياسر وآله على الأذى ما كنا جميعًا من المسلمين.
إنَّ أقصى ما يمكن أن يحدث إلينا يستحيل أن يبلغ معشار ما تحمَّله الرسولُ والصحابةُ من أجلنا، ومن أجل أن ندخل الجنة معهم، ونسعد بصحبتهم لا بدَّ أن نحذو حذوهم، وليكن الصبر على المكاره دليلنا، وحب الله رفيقنا، وإعلاء كلمة الله غايتنا حتى ولو كان في سبيل ذلك حياتنا.
جدد نيتك
ولتجعل من هذا الاعتقال فرصة للوقوف مع نفسك، وتحديد مسارك ووضع أهدافك ورسم أولوياتك تجدد فيه نيتك، وتخلص فيه لله عملك، ولتبحث عمَّا فعلته في حياتك من ذنوبٍ ومعاصٍ، فتحاول إصلاحها، وتجدد العزم وتقويه بأنك ماض على الطريق بأحسن مما كنت فيه لن تحيد عنه يومًا، ولتكن هذه الفرصة لتطبيق شعارات اتخذتها لك عنوانًا فتصدق الله فيما عاهدته لتكن الدنيا في آخرتك نبراسًا وضياءً.
علاقات ربانية
"سجني خلوة.. نفيي سياحة.. وموتي شهادة".. هكذا نظر ابن تيمية إلى الابتلاءاتِ وربطها بعبادته للمولى عزَّ وجل، فلتستمر أوقاتك في الاعتقال وتحولها إلى فرصة لا ينالها الكثير وهي الخلوة مع الله عز وجل تشحن فيها نفسك وتقوي بها إيمانك.
الاحتساب
بداية الثواب هو الاحتساب، يا من أفزعوك ليلاً، وجاءوا ليعتقلوك.. عند الله احتسب غيابك عن أهلك وعن ولدك في حلو الأحداث ومرها، احتسب مالك وعملك ليبدلك الله خيرًا منه، ويغنيك وأهلك بالرضا والقناعة، احتسب معاملة الزبانية وإذلالهم لك حتى يكفيك الله بهذا الاحتساب أي عذاب حين تقف أنت ومَن ظلمك بين يديه.
احتسب المكان الضيق الذي تحيا به وتركك للسكن والراحة ليبدلك الله بكل هذا الاحتساب قصورًا ونعيمًا في دار النعيم الأبدي؛ حيث لا يُرفض مطلوب ولا يُفقد محبوبٌ في الجنة، فلتحسب ما يُفعل بنا في محطة الدنيا الفانية من أجلها.
منحة لا محنة
اعتقلوك ليبعدوك عن طريق الحق، وليثنوك عنه، وما علموا أنهم بذلك يتركون لك فرصةً عظيمةً تشحن فيها نفسك وتقوي فيها عبادات تختلي بها مع نفسك وتقترب من ربك، تناجيه في ظلمة الليالي فلا يحجب صوتك عنه قيد ولا أسوار، ويُلقي في قلبك سكينة واطمئنانًا لا تمنعها أو تغتصبها يد السجان تدمن فيها الذكر، وقد تحفظ في هذه المحنة القرآن، فتكون منحة عظيمة يرغب فيها أصحاب الأفئدة التقية وأصحاب الإيمان.
نعمة أنت مغبون فيها.. الوقت والفراغ
قد يمضي بك العمر وراء الأسوار فهذا قضى شهرين، وهذا قضى أكثر من عشرين سنة، وعلى قدر الإيمان يكون الابتلاء ورفع الدرجات، فلتستغل وقتكَ في دراسة أو خدمة إخوانك أو تعليم حرفة أو مهنة، فوقتك من ذهبٍ لن يستطيعوا مهما حاولوا أن يسرقوه منك.
دعوة من الداخل
ولأننا في هذه الدنيا نحيا من أجل الله فلن يمنعنا القيد والقضبان من نشر دعوتنا في كل مكان، فأين ما كنت فأنت قدوة بأخلاقك نبراس بدعوتك، التزم بعباداتك على أوقاتها وسر على طريق سلوك الصالحين الصادقين دون رهبة أو حياء.
فقد يراك أحد العوام ممن ابتلوا بالسجن في قضايا أخرى وأنت صابر قائم تُصلي فيستشعر مدى عظمة هذا الدين الذي تناضل من أجله، وتُحافظ عليه رغم قسوة الأسر وضيق القيد.
رسائلك لأهلك كلمات تعطي طاقات
الاعتقال فرصة لتعاطف جميع الأهل معك، وقد تنجح في تقويم أحدهم في أمر لم تنجح فيه مرارًا وأنت معه، وليكن لك دور في حياتهم يستشعرون قربك وكأنك معهم تسأل عن أحوالهم وتطمئن على أخبارهم وتُعطيهم رأيك في جميع أمور حياتهم تتابع درجات الاختبارات، وقد تعاون أحدهم في مذاكرته عن طريق تقديم التلخيصات والمساعدة في الأبحاث بطرح مراجع ودراسات.
وقد تعطي كلمات رسائلك شحنًا لطاقات زوجتك في رعاية المنزل في غيابك، كما أنَّ الخطابات والرسائل لها أقوى الأثر في كل المناسبات للأقارب والجيران.
فيذكرونك في صلاة وفي دعاء وتكون لهم نموذجًا لفردٍ مسلم لم ينسيه الاعتقال أهله وأحبته في الله.
وغدًا يُوفَّى الصابرون أجرهم
وستعود يومًا نعم ستعود بإذنه تعالى وخزائنك مليئة بالحسنات، وعلاقتك بأهلك كلها ود وحب ورجاء في الله.
فهذا اعتقل من قبلك واستطاع في محنته أن يختم القرآن، وهذا أعدَّ في معتقله ماجستير في الطب ودكتوراه، وأصبح بعده أشهر طبيب في مجاله.
وهذا خدم زملاءه في المعتقل فكان سيدهم، فسيد القوم خادمهم، ونجح في أن يفعل كما فعل مَن خدم قومه، فلما مات وجدوه مكتوبًا على جسده "من أهل الجنة".
وليكن شراع سفينة صبرك الرضا، وأنكَ بغيابك هذا عن أهلك أفضل ممن غيَّبه التراب ولتزدد يقينًا بكرم الله فهو دائمًا عند حسن ظن عبده به فصبر جميل والله المستعان على ما يفعلون.
وختامًا,, ستظل قلوبنا دومًا تذكركم، وستبقى نفوسنا تشتاق لكم، فعجبًا لمحبتكم وما لها في القلب من آفاق.
نسأل الله تعالى لكم راحةً تملأ نفوسكم، ورضًا يغمر قلوبكم، وعملاً يُرضي ربَّكم، وسعادةً تعلو وجوهكم، ونصرًا يقهر عدوكم، وذكرًا يشغل وقتكم، وعفوًا يغسل ذنبكم، وفَرَجًا يمحو همَّكم، ورزقًا يغني أهلكم، وعيدًا بعودتكم يجمعكم بهم ويسعد فيه قلوبكم ويحقق آمالكم.
أضف تعليقك