كم طبيبًا وطبيبة فاضت أرواحهم وهم يحاولون إنقاذ حياة المصابين بفيروس كورونا في مصر؟
كل يوم هناك اسم جديد يضاف إلى قائمة "شهداء الواجب" بنظر غالبية الشعب المصري، غير أن هؤلاء الشهداء لا يلقون معاملة الشهداء، سواء في إجراءات دفنهم، أو بعد وفاتهم، أو حتى في وسائل الإعلام العسكري الذي لا يعرف أن الشهيد لا يكون شهيدًا إلا إذا كان من الجيش والشرطة، أو ممن يموتون عشقًا في نظام ظالم وقاتل.
قبل نحو أسبوعين، نشرت الصحف في مصر هذا الخبر "أوصت لجنة الصحة في البرلمان بسرعة استصدار قرارٍ من رئيس مجلس الوزراء "باعتبار ضحايا فيروس كورونا من أفراد الطاقم الطبي ضمن قوائم الشهداء، ومعاملتهم معاملة ضحايا العمليات الأمنية من القوات المسلحة والشرطة، طبقاً للفقرة الأخيرة من المادة الأولى من القانون رقم 16 لسنة 2018، والذي يمنح العديد من الامتيازات المالية والعينية لمصابي وأسر ضحايا الأمن".
مضت الأيام تلو الأيام، ولم نسمع أن هذه التوصية تم تفعيلها أو تحويلها إلى إجراء عملي، فقط قرأنا مانشيت "الأهرام" يقول "رئيس الوزراء يشكر الجيش والشرطة لحماية المواطنين"، وقرأنا في اليوم ذاته: السيسي يوقع على تعديلات قانون التقاعد والمعاشات للقوات المسلحة. وفي تفاصيل الخبر أن التعديلات تتضمن أن يتحدّد الحد الأقصى لإجمالي الراتب والتعويضات التي يجري عليها الاقتطاع بقيمته في أول يناير/ كانون الثاني 2020، ويتم زيادته سنويا في أول يناير من كل عام بنسبة 15% منسوبة إليه في ديسمبر/ كانون الأول السابق، ولمدة سبع سنوات، ثم يتم زيادته سنويا طبقا لقانون التأمينات الاجتماعية والمعاشات الصادر بالقانون رقم 148 لسنة 2019.
حين اشتدّت المعركة مع كورونا، أدرك الشعب المصري مدى الغبن الواقع على الأطباء والعاملين بالتمريض الذين يعملون في ظل ظروف بالغة البؤس، لمواجهة فيروس فتّاك يتربص بنحو مائة مليون مصري، وبدأ الناس في عقد المقارنات بين ما يحصل عليه الطبيب من الدولة وما يتحصل عليه الضابط في الجيش والشرطة، ليس فقط على المستوى المادي، بل أيضًا على صعيد التكريم المعنوي والأدبي، ومع تصاعد عداد الضحايا من الأطباء والطبيبات، وافتعال مواقف مهينة للكرامة الإنسانية في أثناء تشييعهم ودفنهم، تولد شعور شعبي عام بأن ثمة تعمّدًا رسميًا للإساءة، وخصوصًا مع تعالي الأصوات التي تصدح بأن هؤلاء هم الأبطال الحقيقيون والشهداء الفعليون في معركة الوجود التي يخوضونها من دون شعارات فجّة أو أناشيد مبتذلة مفروضة فرضًا على وسائل الإعلام، وفتاوى شيوخ السلاطين. وفي اللحظة التي بدا فيها المجتمع كأنه يتحسّس المعنى الحقيقي للشهادة، جاءت عملية منطقة الأميرية، على بعد خمس دقائق بالسيارة من المبنى الرئيس للمخابرات العامة في القاهرة، ليتم تحويل البوصلة من الطبيب إلى العسكري، فيسقط أحد الضباط في مواجهة غامضة وملتبسة في تفاصيلها مع مجموعة إرهابية، بحسب بيانات الأمر المصري، فتندلع على الفور أضخم حملة إعلامية تردّد: الشهيد الشهيد الضابط، بإلحاح شديد وغريب، وكأنهم في درس عملي لتلقين الشعب/ التلميذ ألا شهيد إلا من ينتمي للجيش والشرطة، فيخفت الحديث عن بسالة الأطباء بمواجهة الوباء، وتتوالى الأخبار عن عمليات تهديد وترهيب وعقاب صامت لأطباء يشتكون من عدم توفير الإمكانات والأدوات اللازمة لإنقاذ مرضى الفيروس.
وفي الأثناء، يتزايد الإمعان في إظهار التصدّي لوباء كورونا بوصفه معركة عسكرية، تخوضها القوات المسلحة والشرطة، فيكثّف المتحدث العسكري من حملاته الترويجية لأعمال الرش والتعقيم والتكميم، تكميم الأفواه، وتعقيم العقول، مع استدعاء خطابٍ لا يخلو من الشعوذة والدجل، وكأنها محاولة لابتذال مهنة الطب، باستحضار مجموعة من المهرّجين إلى شاشات التلفزة و"السوشيال ميديا" يتحدثون عن عبقرية عبد الفتاح السيسي العسكرية في محاربة كورونا، وبالطبع لا يفوتهم أن يشدّدوا على أن المعركة مع الإخوان المسلمين، قبل أن تكون مع الوباء.
في الإجمال، يصر النظام، بكل تشكيلاته وأجهزته، على أن كورونا مسألة أمنية، قبل أن تكون شأنًا طبيًا. وبناء عليه، سوف تظل لجان البرلمان تناقش توصيات اعتبار الأطباء الموتى في مواجهة كورونا شهداء، ولا أحد يعلم متى تنتهي.
أضف تعليقك