كانت الإسكندرية قبل ليلة واحدة من المشهد العبثي لتظاهرات ضد فيروس كورونا، مضرب المثل ومبعث فخر "الإسكندرانية" في التعامل بوعي مع الوباء الفيروسي، ليتغير الموقف، فجأة، إلى سخرية طاغية من سكان الإسكندرية، واتهامات بالجهل والفوضى، وبالمرة الأخونة، جريًا على العادة.
لم يكن نظام عبد الفتاح السيسي في احتياج إلى مشاهد من هذا النوع، لكي يعلن قراراته الخاصة بحظر التجول وفرض حالة طوارئ، هي مفروضة ومتجدّدة أصلًا منذ أكثر من سبع سنوات .. إذن، لماذا هذا المشهد الذي تحرق فيه مجموعة صغيرة من المتظاهرين العلم الكوروني، تحت سمع وبصر، وربما تشجيع الأجهزة الأمنية التي لا تسمح بانتقال عصفور من شجرة إلى أخرى، وتتعامل معه بالرصاص الحي؟
قرار حظر التجول كان متوقعًا، بعد أن صار مطلبًا شعبيًا قابلته السلطة بالعناد والكبر وإنكار خطورة الوضع، في البداية، ثم بدأت تلمح وتلوح به مع ظهور الجنرال المخفي عبد الفتاح السيسي، إذ أطل وزير إعلامه تلفزيونيًا بالتزامن مع المسيرة الفكاهية في الإسكندرية، ليعلن أن القرار جاهز وبانتظار التفعيل، وأن الأمر يتوقف على سلوكيات الشعب ومدى انضباطه والتزامه.. المعنى ذاته ذهبت إليه مبكرًا وزيرة الصحة "لو وقع مكروه فالشعب بسلوكه هو السبب"، وهو ما كرره الجنرال السيسي بعبارات لا تختلف كثيرًا، وهو يلتقي مجموعة من السيدات، وختم بترديد دعاء، تم تدريبه على قراءته جيدًا.
لا يفصل بين دعاء السيسي وفعاليات الدعاء على كورونا بالإسكندرية ومناطق أخرى، سواء وقوفًا في الشرفات وفوق أسطح البنايات، أو سيرًا في الشوارع بعربات تحمل مكبرات الصوت، إلا ساعات معدودات، انطلقت بعدها هذه المظاهر، لينتهي الأمر بإعلان حظر التجول، كما هو متوقع ومطلوب. والأهم من ذلك إعلان الشعب متهمًا بالهمجية والفوضى والجهل، وتحميله، مسبقًا، المسؤولية عما هو قادم، أو ربما هو قائم بالفعل، لكن السلطة التي تعتنق الكذب والإنكار مذهبًا وحيدًا منذ بداية أزمة كورونا، تخفيه، وتفرج عنه بالتدريج.
للتذكير فقط، كذبت هذه السلطة على الشعب وعلى العالم، حين أنكرت وجود الفيروس في مصر، وحاربت كل الدعوات والمطالب بتعليق الدراسة، واتخاذ إجراءات صارمة، بل أن من برلمانييها من اعتبر تعليق الدراسة إساءة لسمعة مصر، ثم بدأت الأعداد تظهر وتتصاعد إلى مئات .. تكرر الأمر مع موضوع فرض حضر التجول، حتى نزلت الأخبار تترى عن وفاة قيادات عليا في القوات المسلحة، وإصابة أعداد كبيرة داخلها، بل وقيل إن السيسي نفسه كان محجورًا عليه وأسرته.
كانت الحكومة تردد طوال الوقت كلامًا عن مراحل التعامل، لكنها كانت منشغلة أكثر باتخاذ خطوات استباقية، تجعل فيها الشعب متهمًا أول قبل أن تكشف عن أرقامها التي لم يعد يعتقد في صدقيتها أحد.
سجل هذه السلطة مع التظاهرات والمسيرات الشعبية ينفي عن فرضية أن ما جرى في الإسكندرية كان عفويًا أية وجاهة أو معقولية، ولنا في السنوات السبع الماضية الأدلة والعبر، من حركة بنات 7 الصبح إلى سندس رضا وشيماء الصباغ وعلاء عبد الفتاح ومعتقلي الشورى، والوراق وليس انتهاء باعتقالات العشرين من سبتمبر/ أيلول الماضي، كل الوقائع تقول إن السلطات لا تتسامح أبدًا مع أي خروج إلى الشارع، وعلى ذلك فإن الذهاب إلى أن هذه المظاهر مصنوعة، أو بالحد الأدنى مرحّب بها ومسهل لها، ليس فيه اغتراف كثير من نظرية المؤامرة في رصد أداء سلطة هي ذاتها مؤامرة.
الاستعلاء على الشعب وتسفيهه واعتباره مصدر الشرور ليس سلوك النظام فقط ، بل تشاطره ذلك قطاعات من النخب التي لا تتوقف عن اتهام الشعب بالجهل، وتعريض أمن البلاد للخطر، على الرغم من أن هذا الشعب عرف كيف يحمي نفسه، حتى الآن، ولم يفقد حياة عدد من قياداته العليا وأركان حربه، على الرغم من أنه لا يمتلك الإمكانات والسلطة والقوة الباطشة.
على أن الاستعلاء العنصري البغيض على الشعب العادي لا ينحصر في اتهامه بالجهل وسوء السلوك فقط، بل يصل إلى ما هو أعنف، حين لا تشمل حملات المطالبة بإخراج المسجونين سوى سجناء الرأي المعروفين، والمقرّبين من دوائر النخبة والسلطة، دون غيرهم من البشر العاديين.. وهذا موضوعٌ متصل يستحق العودة إليه مجدّدًا.
أضف تعليقك