بقلم.. وائل قنديل
لا فرح ولا شماتة في الموت. ولكن في الوقت ذاته لا لاستغلال رهبة الموت في تصنيع الأوهام وتعليبها في آنيةٍ من الذهب الفالصو، ولا لاستثمار نصّابين ودجّالين في المناسبة، يجدونها فرصة لحياكة تاريخ من قماش رديءٍ وبيعه للناس باعتباره منتهى الروعة في كل شيء.
الذي مات في مصر بالأمس هو الشخص الذي تعاملت معه مصر بمنتهى الرّقي حين اختطف الموت حفيده في العام 2009، فتعاطف معه الكل في مصابه الأليم، متجاوزين مرارات وآلاما ثقالا تسبب فيها الرئيس الجد.
شخصيًا كتبت مقالًا في نعي محمد علاء مبارك، أصابتني سخريةٌ من بعض الأصدقاء بسببه، قلت فيه: "أسجل أنى على مستوى الشخصى حزنت ودمعت عيناي، وكأن الراحل واحد من أهلى.. تماما كما أحزن وأبكى على أي طفل شهيد في غزة أو العراق أو تحت صخرة الدويقة.. كان مشهد علاء، وهو يستجمع قواه أثناء حمل النعش كافيا لكى يهز جبلًا، وكانت حالة جمال وهو يغالب دموعه كفيلة بأن تنفجر بداخل المشاهدين آبارًا من الضعف الإنساني الرهيب".
نعم، بكى المصريون على حفيد مبارك، على الرغم من أنه لم يبك على أكثر من ألف مصري غرقت بهم العبارة "السلام"، بل كان يحتفل في استاد القاهرة مع زوجته سوزان بالفوز على كوت ديفوار في البطولة الأفريقية، فيما كان أهالي شهداء العبّارة يبحثون عن الجثث على شاطئ البحر الأحمر.
كان المصريون كرماء مع حسني مبارك، حتى حين ثاروا ضده، وكان منهم من يميل إلى منحه الفرصة ليرحل بكرامة، لكنه لم يكن كريمًا معهم، ولم يُقابل الإحسان بمثله، بل قابله بمنتهى الوحشية في ذلك اليوم من فبراير/ شباط من العام 2011، حين حشد كل أسلحته الهمجية، وسمح بشن حرب على المصريين الثائرين تنتمي إلى أحط عصور الظلام، عن طريق راكبي الجمال والخيول، فيما عرفت بموقعة الجمل.
كان من الممكن أن يحظى مبارك برحيل كريم، لو أنه صان دماء المصريين واحترم كرامتهم، غير أنه اختار أن يكون رثاؤه بالعبرية أكبر وأوسع، على ألسنة أعداء لهذه الأمة، بكوا عليه حين خُلع من السلطة، ونعوه حين رحل عن الحياة.
لم يترك مبارك مناسبةً إلا وأهان فيها مطالب المصريين وأحلامهم بالتغيير، ولم يستغل الفرصة التي أتيحت له قبل رحيله بعام وشهرين كي يعتذر للثورة وللدماء، حين جاءوا به إلى ساحة المحكمة، ليدلي بشهادته الأخيرة عن ثورة يناير، فقرّر أن يواصل ما أسميته "انتقام المومياء المتوحشة"، ويقول كذبًا وبهتانًا إن الثورة كانت عملًا تخريبيًا مسلحًا، قامت به قوى خارجية قادمة من الحدود الشرقية، ليمارس انتقامًا مزدوجًا من غزة والثورة معًا.
قلت وقتها إن هذا لم يكن استدعاءً إجباريًا إلى المحكمة للإدلاء بالشهادة، بل هي مكافأة نهاية الخدمة، ونهاية العمر، قدّمها عبد الفتاح السيسي للأب الرئيس، أو الرئيس الأب حسني مبارك، لكي يشفي غليله، وينشب مخالبه في جسد الثورة الجريحة، ويرتوي من دمائها.. وينتقم بشهادته ضدها. هل كان من العقل أن يتوقع أحدٌ أن يهدر مبارك هذه الفرصة؟ هل كان منطقيًا أن ينتظر أحدٌ أقوالًا أخرى غير التي أدلى بها مبارك؟
الثابت قطعًا أن أحدًا لم يفرح بجريمة الانقلاب على حكم الرئيس القادم من قلب الثورة الدكتور محمد مرسي، كما فرح بها حسني مبارك، فرحة لا تقل عن فرحة محمد البرادعي وأقرانه من المشاركين فيها، غير أن هناك من اختار أن يتعاطى أوهامًا ويتاجر فيها، ويروّجها على نطاق واسع، من نوعية إنه بالإمكان التنسيق والتعاون مع مبارك ورجاله لإزاحة انقلاب عبد الفتاح السيسي، تلك الأوهام التي وجدت لنفسها مكانًا في مبادراتٍ سخيفةٍ وعلى شاشات فضائياتٍ أسخف، وخصوصًا مع مشاريع المغامرين الأفاقين المستثمرين في بورصة المأساة المصرية، وقائدهم البائس الذي ما أن يقترب من فرصةٍ لأي تحرّك حقيقي وجاد، حتى تفسد وترتد في جسد الثورة.
رحل مبارك، وبقيت الأوهام وباعة الأوهام يبدلون وجوههم كالجراد الناهش في كل مساحة خضراء تلوح في الأفق.
أضف تعليقك