بقلم د. عطية عدلان
على عكس التوجه العام؛ لم أكن سعيدا بحوار شيخ الأزهر مع رئيس جامعة القاهرة ولا مقتنعا به؛ لا لأنّه كان سطحيا ومرتجلا وحسب، ولكن لذلك ولأسباب أعمق، فالمشهد بدا وكأنّه حفلة تَرْمِيز وتتويج لأحمد الطيب، الذي نجح في استدرار الإعجاب واستمطار التصفيق، ببعض الردود التي إن شبهناها بأوسمة من خشب في عُلَبٍ من ذهب لم نكن مبالغين في الوصف ولا منغمسين في الحيف!
ولقد استمعت لكلمة الدكتور "الخشت"، ومن الطبيعيّ ألا يروق لي طرحه، لكنني لم أجد في الرجل شططا يستدعي تحويل الحوار إلى معركة ثنائية يصرع فيها شيخ الأزهر غريما أَوَى إلى عرينه، بل إنّ الرجل بدا أفضل بكثير من أولئك الذين يتبجحون بإنكار السنة أو القول بتاريخية الأحكام أو يتهجمون على الأئمة ويستخفون بعلمهم ودينهم أو يوجهون سهام النقد للأزهر ومناهجه وتاريخه؛ الأمر الذي يرجح في العقل والعدل وجوب التوجه في الحوار معه إلى الموضوعية.
الحقيقة المطلقة
وأخطر ما تطرق إليه الرجل هو موضوع الحقيقة المطلقة، ولست أدري ما مذهبه في هذه المسألة، لكنه - على الأقل في هذا الحوار - لم يقل بنسبية الحقيقة ولم ينف وجود الحقيقة المطلقة، إنّما فقط أنكر امتلاك أحد لها، وهي أهون بكثير من نفي الحقيقة المطلقة ذاتها، لكن جاء رد (الإمام الأكبر!) مثل (الكوبري) الذي يعطيه اللاعب لخصمه؛ ليستدعي إعجاب الجماهير.
أمّا الذي لا يعرفه المصفقون والمهللون فهو أنّ معركة التجديد للخطاب الدينيّ أعمق وأوسع من هذه المناوشات الصغيرة، إنّها معركة بين فريقين لا يلتقيان حتى يلتقي فرسان جامحان انطلق أحدهما جهة المشرق والآخر جهة المغرب، والنتيجة هي تعطيل الواجب الذي يتحتم القيام به أو تحريف مساره والخروج به عن مداره.
إنّ التجديد في الخطاب الديني يُعَدُّ أحد أهم مجالات الاجتهاد؛ لذلك فهو واجب على علماء الأمة وجوبا كفائيا، لا ينعتقون من عهدته حتى تتحقق الكفاية بمن قام به في واقع الحياة؛ بما يعني أنّ التهاون والتسويف فيه خطيئة لا تقل عن خطيئة تعطيل الجهاد في سبيل الله، فلا يزايد على دين الله في هذه القضية ولا يساوم عليه.
حكم الله
لكن ماذا يعني تجديد الدين؟ أهو - كما يراه الطرح العلمانيّ - التدخل بالتغيير في الأحكام لتوافق الزمان وتتآلف مع تطور العمران؟ أهو تجديد لمضامين الدين نفسه بزعم أنها لم تعد ملائمة لتطور البشرية؟ أهو عملية تطوير للدين ومعطياته نتجاوز بها التراث ونتخطى بها الشريعة والأحكام؟ إن كان المقصود بالتجديد شيء من هذه المعاني فهو مرفوض قطعاً ومنبوذ قولا واحداً؛ لأنّه في حقيقته تبديل للتنزيل وتحريف لخطاب الله تعالى الذي تعبدنا بالتسليم لحقائقه والانقياد لأحكامه.
إنّ وظيفة العباد تجاه ما جاءهم من الوحي والرسالة هي التلقي والتنفيذ، وليس المناقشة والتفنيد، وإنّ التجديد بهذا المفهوم تشريع، والتشريع لا يكون إلا لله وحده: (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) (الشورى 10) (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (الشورى 21) (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) (يوسف 40) (إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا) (النساء 105)، وإنّ أخطر ما يوقع الخلق في الضياع والبوار هو قيامهم بالرد لحكم الله تعالي، ذلك السلوك الأسوأ الذي تسبب في طرد إبليس من رحمة الله، عندما اعترض على حكم الله قائلا: "خلقتني من نار وخلقته من طين"
ولو كان حكم الله تعالى يقبل التعديل أو الردّ لكان أولى أحكامه بهذا أَمْرُه لإبراهيم عليه السلام أن يذبح ولده إسماعيل؛ إذ لا مصلحة فيه في ظاهر العقل وبادي الرأي، لكن الذي جرى واستحق به إبراهيم وولده التكريم كان هو الانقياد والتسليم: (يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) (الصافات 102) (فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ) (الصافات 103) ولولا أنّ الله تعالى تولى من جهته نسخ الحكم لما كان للعرب العدنانية بما فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وجود في هذه الحياة: (وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ) (الصافات 107) وقد وقعت هذه الحادثة لتكون مثلا حيا نابضا يجسد حقيقة الإسلام، وهي أنه الاستسلام والانقياد لحكم الله تعالى، مهما بدا لظاهر العقل أنّه ينافي الحكمة والمصلحة.
لذلك يجب أن نجزم بأنّ التجديد إذا قصد به تغيير الأحكام الثابتة فإنّه يكون خروجاً على حكم الله تعالى ومروقاً وفسوقاً لا يصح إقراره ولا السكوت عنه، حتى ولو كان العوض عن تغيير الأحكام إبقاء المقاصد التي أثمرتها الأحكام، فإنّ البعض يدعو إلى تجاوز الالتزام بالأحكام إلى مراعاة المقاصد، بزعم أنّها الأهم والأجدى، وهي دعوى باطلة؛ لأنّ المقاصد لا يمكن تحقيقها إلا بالأحكام، ثم إنّنا متعبدون بالأحكام لا بالمقاصد، وهذا مما لا ينازع فيه عاقل فضلا عن عالم.
ما يدعونه من نسبية الحقيقة لا حقيقة له؛ لأنّ الاستقراء يثبت أنّ في الكون والحياة حقائق ثابتة لا تقبل الجدل، فما الذي يمنع أن يكون في الدين المنزل من عند الله تعالى خالق الكون والحياة حقائق ثابتة؟! إنّ الله تعالى قد أعلن في كتابه عن هذه المسَلَّمة القاطعة الساطعة: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ) (آل عمران 7) ولعل الإمام الطبري رحمه الله قد مال إلى تفسير "أم الكتاب" بأنه معظم الكتاب([1])، وهو ما رجحه الشاطبي رحمه الله في الاعتصام([2]) والموافقات([3]) حيث أثبت أن المحكمات معظم الدين وليس العكس.
حتى المتشابهات وموارد الاجتهاد لا تقبل التغيير الذي يأتي على وجه التبديل لأحكام الله، وإنما تقبل التغيير الذي يأتي عن طريق إعادة الالتماس للحكم الشرعيّ من مصادر الشرع على وجه يظهر رجحانه.
إذا كانت الدعوة إلى تبديل أحكام الشريعة خطر على دين الله فإنّ الخطر الأكبر يتمثل في قعود العلماء في عصرنا عن تجديد الخطاب الشرعيّ بما يحقق صلاحية الدين الإسلاميّ لكل زمان ومكان، وبما يمهد للبعث الحضاريّ المنتظر لهذه الأمة، وبما ينفي عن دين الله تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين، وهذا هو واجب العلماء الراسخين في العلم من خلال الاجتهاد الجماعيّ المؤطر بالشورى.
ثورة كبيرة
إنّ تراثنا في الفقه والتفسير والتاريخ وعلم الكلام - ذلك التراث العظيم - مُثْقَل بكثير مما يحتاج إلى إعادة النظر، ولا يشعر بهذا إلا من يعاني البحث فيها والاطلاع عليها، هذا بالرغم من أنّه بالنسبة إلى غيره من موروثات الأمم يُعَدُّ مفخرة للمسلمين لا عورة يزففون عليها ويستحيون من إبدائها، ومن كان في ريب من هذا فليطالع ما خلفه أهل الكتاب - وهم أرشد من غيرهم بمراحل - مما سطروه - ليس في تفاسيرهم وشروحهم ومروياتهم وحسب - بل في أناجيلهم ذاتها.
فالدعوة إلى التجديد ليست دعوة إلى نبذ التراث، ولا إلى تخطيه وتجاوزه جملة، وإنّما هي دعوة إلى نفض ما علق به مما لم يعد ممناسبا لزماننا، والتجديد عمل فقهي اجتهادي شرعيّ يتخذ من صريح الكتاب وصحيح السنة معيارا وميزانا، ويستأنس بما تقرر من مقاصد الشرع الكلية العامّة، وينتهج الطريقة السالمة من الزيغ؛ برد المتشابه إلى المحكم.
قد قام العلماء في كل عصر بحركات من التجديد كانت كافية بمقاييس عصورهم، فمثلا: في البداية كان الفقه مرويات تنقل عن الصحابة والتابعين، وكان الاجتهاد فرديًا كلٌ بحسب ما وهبه الله من ملكات، ثم وضع علم أصول الفقه لينظم عملية الاجتهاد وفق قواعد أصولية، وعندما نضج علم الفقه واتسع وكثرت فروعه عمد العلماء عن طريق الاستقراء إلى نظم الأحكام الجزئية حول قواعد فقهية كلية تجمع شتات الفروع وتنظمها حول محاور ثابتة، ثم جاءت مرحلة تأطير النظم والنظريات الجامعة كالنظام السياسي والنظام القضائي ونظرية الضرورة ونظرية الإثبات، وفي العصر الحديث نشأت المجامع الفقهية واجتهدت في تلقي النوازل والاجتهاد في تنزيل الحكم المناسب لكل نازلة.
غير أنّ عصرنا الحديث هذا يحتاج ثورة كبيرة في عملية التجديد، ثورة تحقق البعث الجديد، وتضع الأمة على طريق الريادة والقيادة، وتؤهلها للتحول الحضاري القادم، والذي من المرجح أن تكون الجولة فيه للإسلام وأهله، والتهيب من هذا التجديد من قبيل الورع المغلوط، والجرأة فيه ليست جرأة على الله ولا على رسوله وكتابه، وإنما هي جرأة على النمط التقليدي الذي يجمد بالشريعة عند حدود لا تتسع لاستيعاب الخطاب القرآني ولا إلى تحقيق أهدافه ومرامية السامية.
أضف تعليقك