بقلم طه خليفة
حل عام 2019 تاركاً في ثوبه نقاطاً مضيئةً في النضال الشعبي العربي من أجل الحرية، واستعادة العربي لإرادته وكرامته، ومواجهة الاستبداد المتجذر في التربة العربية.
وهذا ليس تنظيراً سياسياً، ولا حديث متعلمين أو مثقفين، بل هو حقيقة تجلت خلال بداية العام الفائت في السودان والجزائر، وقبل أن يلملم العام أوراقه تجلت هذه الحقيقة الناصعة مرة أخرى في العراق ولبنان.
النتائج قد لا تأتي دوماً كما يريد الأحرار العرب طليعة الشعوب التي تتحمل التضحيات الجسيمة في سبيل الأهداف النبيلة، فهناك قوى الاستبداد التي تقاتل لأجل ألا تسقط وتفقد ما تبنيه منذ عقود من تراث عفن من القمع والفساد والظلم، لكن رسالة الانتفاضات والثورات تصل قوية وتساهم في مزيد من الوعي بالحقوق وخلخلة أركان منظومة الطغيان التي لم تكره فترة زمية قدر كراهيتها للعقد الثاني من هذا القرن الذي يُختتم بهذا العام 2020 والذي بدأ مُزيناً بأحلام هنا وهناك في استعادة زمام مبادرة التغيير الذكي الذي لا يسقط في براثن السذاجة والأنانية والتشرذم النخبوي والانخداع بشعارات مضادة كاذبة والأخطاء كما حدث من قبل.
الربيع في شرارته الأولى شمل العديد من الدول العربية، تونس ومصر واليمن وليبيا وسوريا والبحرين، ورفرف على الأردن والمغرب، وإذا لم تكن نتائجه في بناء الدولة الديمقراطية العادلة جاءت كما يتطلع المتشوقون لتقدم بلدانهم وحرية مواطنيهم، فإنه مع ذلك لم ينكسر الحلم نهائياً، أويتم دفنه في غياهب اليأس والإحباط.
انتفاضات الميادين والشوارع في أربعة عواصم عربية خلال العام المنتهي والنتائج المبدئية المبشرة التي تحققت حتى الآن فيها توكد أن كل المحاولات المحمومة لترسخ فكرة كارثية الربيع على الشعوب والأوطان في الوعي العربي العام سقطت، ولم يفلح الكارهون لحرية الشعوب في جعل الخروج الاحتجاجي السلمي على التدهور المزري للأوضاع بمثابة الخطيئة الوطنية الكبرى.
ومن إيجابيات النضال العربي أن بلدان الإضاءة الثانية للربيع - السودان و الجزائر، والعراق، ولبنان - كانت مستبعدة تقريباً من الحالمين بالتغيير، ولم يكن التوقع أن يخرج هتاف موحد منها يلتف الكل حوله للمطالبة بالإنقاذ والإصلاح، فكل دولة توفرت لها ظروف عامة متشابكة ومعقدة كانت تجعلها عصية على التغيير في التحليل والتوقع النظري، لكن حركة الشعوب المتغيرة المفاجئة لا تخضع لقواعد الثبات، وتحقق ما هو مستبعد في الاحتمالات والتوقعات.
وعندما تنتفض الشعوب في هذه البلدان، وتقدم تضحيات كبيرة، وتنجح في إحراز نتائج معقولة حتى الآن فإن هذه شهادة دامغة بأنه لا حصانة لمستبد أو حاكم مطلق في زمن الربيع العربي الذي ينبعث دون سابق إنذار من تحت رماد إشعال الأنظمة المتجبرة للحرائق في شعوبها وأوطانها.
الانتفاضات والثورات الجماهيرية ليست مؤامرة خارجية أبداً، بل الخارج هو المتآمر عليها، ولا هي تخريب وتدمير، إنما هي توافق شعبي عام على رفع الكارت الأحمر لتجارب حكم فشلت في تحقيق الحد الأدنى من الحياة الآدمية ومن الحرية في وطن عادل مستقل مستقرعزيز لأجل تنفيذ وصفة هذا الوطن الجديد الإنساني.
ومن المؤسف أن يكون الحديث عن الأوطان والأوضاع إيجابياً في بعض النواحي عندما كانت ترزح تحت الاستعمار الأجنبي، ومن المؤسف أكثر أن يذهب بعض خبراء السياسة إلى القول إنه تم استبدال المحتل الأجنبي بالمحتل الوطني في زمن الدولة الوطنية المستقلة.
فكرة المؤامرة محاولة عدمية بائسة لتشويه مطالب الإصلاح، وإعلان فشل كتائب حكم لم تفلح في إدارة معارك البناء والتنمية والتطوير وانتشال الناس من واقع غير إنساني إلى حياة أفضل.
وإذا كانت منظومات الحكم أخفقت، فلماذا وجودها؟، ولماذا لا يُمنح التغيير والتوجه نحو تجريب ديمقراطية الحكم ودولة القانون والعدالة والتداول السلمي للسلطة الفرصة؟، فالسلطة ليست إرثاً لعائلة تتحكم، أو جهة بعينها تحتكر الحكم، إنما هي وسيلة لإدارة أفضل للبلدان لمن يمتلك القدرة والمسؤولية على ذلك بنزاهة وعدالة واختيار شعبي حر.
إذا كانت الثورة الشعبية السلمية مؤامرة فكيف خرج الملايين في عديد العواصم العربية في الموجة الأولى؟. كيف اتفقت كل هذه الحشود الهائلة على التآمر؟. وكيف تعيد ملايين آخرين الكرّة في عواصم الموجة الثانية من الربيع للمطالبة برحيل أنظمة لا تقل فحشاً عن الأنظمة التي سقطت من قبل. وكيف تتسع المعارضات الشعبية السياسية والاجتماعية والفئوية، ويتغير مزاج الرأي العام مرة أخرى في بلدان ظنت أنظمتها أنها أنجزت عملاً مهماً بتكفين وتشييع ربيعها إلى مثواه الأخير. والمثير حقاً أن حلم الحرية لم يسقط نهائياً في البلدان التي مزقتها وقتلت شعوبها الأنظمة التي تعاملت بقوة السلاح مع مطالب الإصلاح.
الحرية والعيش الكريم ليسا مؤامرة، ولن يكونا، ويستحيل أن يكون هناك متآمر يجمع كل الطيف السياسي النزيه مع فئات شعبية متنوعة تعكس تركيبة المجتمع ليكون لهم جميعاً هدف واحد وهو الخلاص من كتائب القمع والتكميم والإذلال والإفقار، وكل ما يتم توجيهه للربيع العربي من اتهامات سخيفة هو نتاج عقل يقاتل من أجل البقاء على جثث الناس وذبح الحقيقة.
وكما أن هناك إصراراً شرساً من منظومة الاستبداد والمصالح المرتبطة بها أو الآمرة لها في البقاء في خنادقها والدفاع عن وجودها وما تحت يديها منتزعاً بالقوة فإن المناضلين من أجل الحرية لديهم إصرار أشد على مواصلة معركة انتزاع الحقوق كلها أو بعضها من بين أنياب الطغيان مهما كانت التضحيات.
هذه ليست شعارات، فقد مضى زمانها، نحن في زمن الفعل، لم يكن أحد يتوقع أن يحتج مواطن عربي واحد قبل 2011، فإذا بالهتافات الهادرة للملايين تهز عروش الديكتاتوريات وتسقطها، والنضال جولات، وعندما يفوز الاستبداد في بعضها فهذا يتم بوسائل تفتقد للأخلاقية، الاستبداد لا أخلاقي من الأصل، فلا حق أو شرعية له، إنما اغتصاب ما ليس له والدفاع عنه بالدم والنار، أما الأحرار فلا يملكون غير أرواحهم، وصدورهم العارية، فلا مقدرات دول في أياديهم، ولا جيوش وأجهزة أمن وقمع وخزائن أموال دول تحت إمرتهم، ولا قوى خارجية مساندة يتم إغراؤها بثروات الشعوب لتقف إلى جوارهم وتوفر لهم الحماية.
ومع هذا فالطريق ليست معبدة رغم انكشاف الاستبداد وبجاحته وترنحه فالمناضلون يواجهون نوعاً متخلفاً من الحكم الموروث من أظلم فترات التاريخ الإنساني لا يريد أن يفارق التربة العربية، استبداد متجذر في منطقة تحولت كل مصادر قوتها إلى نقمة على شعوبها حيث تتسبب مواردها وثرواتها وموقعها الاستراتيجي وتاريخها وتراثها الروحي ومعتقداتها في أن تكون أحد عوامل نكبتها، فهي مطمع للغزاة والمستعمرين قديماً، وهذه المطامع لا تزال موجودة في عقل وسلوك وسياسة الاستعمار الجديد الداعم لوكلائه في قصور الحكم.
وعندما نتحدث عن المناضلين والأحرار العرب فهم فقط المخلصون للفكرة والحلم، وهم المضحون دون انتظار نتيجة يحصدونها، وهم أصحاب الضمائر الحية والقلوب النقية والعقلية المتسامحة، لأنه ضمن صفوف من فجروا الانتفاضات منذ 2011 وحتى اليوم كان هناك انتهازيون ونفعيون وكارهون وضيقو أفق وأنانيون وتجار ومتبلدون، مثل الطابور الخامس خلال الحروب، تسببوا في إعاقة الثورات عن إكمال طريقها، وخانوا الأهداف التي خرجوا من أجلها، وهم أسوأ من المستبدين الذين نصفهم بأنهم أصل البلاء، لأنهم يتبجحون ويعلنون أنهم حملة مشاعل الديمقراطية والحرية، وهم من يطعنونها، وطعنتهم أشد إيلاماً، بينما الاستبداد لم يظهر ميلاً للديمقراطية يوماً.
2019 كان عاماً آخر من أعوام العرب الخالدة، فقد أثبتت الشعوب فيه أن روح التحرر لديهم لا تزال حية، وأن جذوتها مشتعلة، ولا تنطفئ أبداً طالما هناك إنسان عربي واحد يسكن هذه الأرض، وهذه الروح ممتدة للعام الجديد 2020 الذي نرجو أن يكون مميزاً للشعوب وحقوقها مثلما هو مميز في أرقامه وتدوينه.
أضف تعليقك