بقلم.. وائل قنديل
الحكاية ببساطة أن مصر تعيش داخل بقعة دم لا تجفّ منذ ذلك اليوم الأسود 14 أغسطس/ آب 2013، حين وقعت أكبر جريمة ضد الإنسانية يرتكبها نظامٌ ضد الشعب في تاريخ مصر.
واقعة استشهاد المواطن المصري، حامل الجنسية الأميركية أيضًا، مصطفى قاسم، داخل زنزانته التي يقبع بها منذ نحو ست سنوات، هي امتداد لتلك الجريمة التي تواطأ فيها المجتمع الدولي، وبعض المجتمع المحلي، على دماء المصريين، فقفز فوق الجريمة، تحت طبول "الحرب على الإرهاب"، والتي هي واحدة من أكبر عمليات النصب السياسي على التاريخ الإنساني، إذ يتصدّرها إرهابيون بدرجة رؤساء دول وقادة جيوش وزعماء مليشيات، يقتلون الشعوب ويصادرون حقها في التغيير، ويشعلون النار في قيم مثل حقوق الإنسان والديمقراطية والعدالة القانونية، مختبئين تحت تلك العبارة الساقطة "عندما تكون الأوطان في خطرٍ لا تتحدّث عن حقوق إنسان وحريات سياسية".
تلك كانت الجريمة الحضارية التي تشاركت فيها دول العالم، الكبيرة والصغيرة، ذات الحكم الديمقراطي، وصاحبة الإرث الاستبدادي العريق، لتنتفي الفوارق بين رئيسٍ جاء عبر انتخابات ديمقراطية، مثل دونالد ترامب، وجنرال دموي وصل عبر انقلاب عسكري ومذبحة إنسانية، مثل عبد الفتاح السيسي، وزعيم تنظيم عصابي مسلح، مثل خليفة حفتر.. حتى على المستوى الأميركي لن تجد فرقًا كبيرًا بين الديمقراطي القادم من التراث الإنساني الرائع للمناضل مارتن لوثر كينغ، ورجل الأعمال الرأسمالي المتوحش، القادم من عالم التجارة والسمسرة، دونالد ترامب، فكلاهما رضي بمن ارتكبوا المذابح، مع اختلافاتٍ في درجة الرضا.
مأساة شهيد معركة الاحتجاج بالأمعاء الخاوية ضد فظاعات سجون السيسي، الأميركي المصري مصطفى قاسم، ممتدة منذ كان باراك أوباما رئيسًا ديمقراطيًا للولايات المتحدة، ولم تحرّك الإدارة الأميركية ساكنًا، لأنه، على الأغلب، ليس مشهورًا ولا معروفًا، وليس حاضرًا طوال الوقت في المنصّات الإعلامية، أو على مواقع التواصل الاجتماعي، ذلك أنه كان وراءه زوجة وطفلاها، لا حول لهم ولا قوة، يستطيعون الوصول بالكاد إلى الإعلام، وإن وصلوا فالنشر على أضيق نطاق، عن مأساة الوالد المحبوس ظلمًا، مع مرضه وقهره، في ظروفٍ غير آدمية.
مات مصطفى قاسم، فحضر بقوة في وسائل الإعلام والسوشيال ميديا، حتى إعلام السيسي تكلم عن موته، على نحو يذكر بالمقولة الصهيونية "الفلسطيني الجيد هو الفلسطيني الميت".
مصطفى قاسم عبدالله هو صاحب أطول فترة إضراب عن الطعام في السجون المصرية، 17 شهرًا كاملة، وقد بدأت مأساته حين كان في إجازةٍ عادية إلى مصر، قادمًا من الولايات المتحدة، فاعتقل بالمصادفة منذ يوم 14 اغسطس/ آب 2013 ، مريض بالسكر درجة أولى، انتقل منذ ذلك اليوم من ستاد القاهرة إلى قسم الخليفة، ونجا من محرقة عربة الترحيلات التي تحدّث عنها الإعلام العالمي، في أثناء نقله إلى سجن أبى زعبل، والتى قتل فيها 38 شخصًا خنقا بالغاز. وبعد ستة اشهر انتقل إلى سجن استقبال، وعانى فيه أشد المعاناة، حيث كان مريضًا بالغدّة وأثرت بالتالي على الكبد، وتم نقله بعد ذاك إلى سجن التحقيق. وبعد مرور عامين من التحقيقات، تحولت القضية إلى الجنايات، واستمر في التأجيل، إلى أن صدر الحكم عليه بالسجن المشدّد خمسة عشر عاما يوم7 سبتمبر/ أيلول 2018. ومنذ ذلك اليوم وهو مضرب عن الطعام، اعتراضا على هذا الظلم، حيث لا ينتمى إلى أي أحزاب سياسية، ولم يرتكب أي شيء يُحاسَب عليه القانون.
كان مصطفى قاسم، في البداية، يرفض تمامًا مبدأ التخلي عن جنسيته المصرية، سبيلًا للخروج، حتى صدر الحكم بالسجن المشدّد، فطلبت منه السفارة الأميركية التقدّم بطلبٍ للتنازل عن الجنسية المصرية، وقد تنازل بالفعل، ثم طلبت منه السفارة التنازل عن إجراءات دعوى النقض، وتنازل أيضا، لكنه في ذلك كله بقي متمسّكًا بإضرابه عن الطعام. يعيش فقط، وبعلم السفارة الأميركية، على العصائر، ليدخل في حالة إعياء شديد، ويتعرّض مراتٍ لغيبوبة السكر، بعلم السفارة الأميركية، ثم تم نقله إلى مستشفى ليمان طره محتجزا في غرفةٍ مليئةٍ بالحشرات، وفيها اثنان من المرضى النفسيين يصرخان ليل نهار، وآخران في عداد الأموات.
مصطفى قاسم مثله مثل عشرات ماتوا بالسجون، وآلاف مهددين بالمصير ذاته، ليس ضحية نظام السيسي فقط، بل ضحية دونالد ترامب، بالدرجة ذاتها، حين أبدى انبهاره بالقدرات الفائقة في القتل التي يتمتع بها ديكتاتوره المفضل، القاتل اللعين، بل هو كذلك ضحية نظام دولي بلا ضمير، وبلا أخلاق.
أضف تعليقك