في زمن الاحتلال الأجنبي، الذي انتَهَكَ من وقتٍ لآخر حرماتِنا، ونهَبَ خيراتِ بلدِنا، ونشَرَ الفجور والانحلال وسط أبنائنا، وعمل على السيطرة على مقاليد الأمور السياسية، فاستعبد حكامنا، واشترى ذمم الكثيرين من رجالنا، فلهث وراءه كل مفتون بحضارته الزائفة..
في هذا الزمن الذي لم يكتفِ الاستعمار بالسيطرة على الأمور السياسية والاقتصادية والفكرية، ونشْر الفساد وسط الطبقات الاجتماعية، فعمل على تدمير البنية التحتية لشعوبنا، وضرب الأخلاق في محرابها، فوجَّه سهامه إلى حصن الأمة الحصين، وهم العلماء، فأنقص من شأنهم، وعمل على شرائهم، فانساق وراء كلماته الزائفة نفرٌ من العلماء، ودمَّر مناهج التعليم، وقد اعترف القس زويمر في مؤتمرٍ عالمي عام 1925م حين قال: "إن السياسة التي انتهجها دانلوب في مصر نحو التعليم ما تزال مثارَ شكوى لاحتوائها على شوائب كثيرة ضد مقاصد الدين والوطن".
كما حصر التعليم في أبناء الطبقة العليا، وفرَّق بين التعليم الأزهري والتعليم العام، ومع كل هذا وجد صدودًا لدى كثيرٍ من العلماء، الذي حفظوا للإسلام هيبته، وللأمة كرامتها، وكان من هؤلاء عالمنا الجليل الشيخ طنطاوي جوهري، الذي ترك مشاعل من النور، سار عليها مَن جاء بعده.
لقد كان طنطاوي جوهري أول عربي يُرشَّح لنيل جائزة نوبل، إلا أن المنيةَ وافته قبل الحصول عليها، لقد كان شأنه شأن المصلحين الروَّاد في مطلع هذا القرن، لم يقف عند الإصلاح الاجتماعي والديني، بل امتدَّ لميدان الوطنية، فكان في كتاباته يُخاطب كل عاقلٍ حصيف.
لقد اختلفت الآراء حول الشيخ الجليل، لكنها أجمعت على أنه بطلٌ من أبطال الإسلام، وفيلسوفٌ من فلاسفة الشرق، وحكيمٌ من حكماء العصر، وكان للشيخ قدَمٌ راسخةٌ في العلم والتأليف والتصنيف في الفكر والحكمة، ولَكَم صادفت آثارُه هوى في النفوس الحيَّة التي سئمت الجمود وحنَّت إلى الحقائق.
النشأة
وُلد طنطاوي جوهري في قرية كفر عوض الله حجازي بمحافظة الشرقية عام 1862م، وكان جده لأمه هو الشيخ عوض الله حجازي، وكان والده الشيخ طنطاوي يعمل بالزراعة، وكان فقيرًا لا يملك من حطام الدنيا إلا صحته التي يستثمرها في الزراعة، لكن كان لعمه الشيخ محمد شلبي- وهو أحد علماء عصره- دورٌ عظيمٌ في توجيهه إلى التعليم، فعمل جاهدًا على تربية وتعليم الشيخ طنطاوي تربيةً إسلاميةً.
شغفه بالعلم
التحق الشيخ طنطاوي في مطلع حياته بكتَّاب القرية، وأتم فيه حفظ القرآن، وبعد أن أتم الحفظ ظهر عليه ولعُه بالعلم، فالتحق بالجامع الأزهر عام 1877م، وفي هذه الفترة ظهر نبوغه كما ظهر ذكاؤه الحادّ، فأجاد علوم اللغة العربية والفقه الإسلامي، وألمَّ بمذهب الإمام الشافعي، غير أنه انقطع عن الأزهر؛ بسبب مرض خطير ألمَّ به وبوالده الفقير، الذي لم يستطع النفقة عليه وعلى تعليمه، فترك التعليم وعمل بالزراعة مع الفلاحين لمساعدة والده، وكان ذلك دافعًا له للنظر في الطبيعة واكتشاف ولايتها للخالق عز وجل، وإدراك وجود الله؛ يقول: "لما كنت في الأزهر كنت أحسُّ بميلي الشديد إلى الكواكب والنجوم، وكم قضيتها أحلِّق معجبًا بجمالها، وأحسست في نفسي بحزن عميق لجهلي بهذه الأكوان".
ساعده عمه الشيخ محمد شلبي على تحصيل علم الحديث الشريف في الجامع الصغير الموجود بالقرية، حتى إنه قال في نفسه: "ما لي أرى من ابن أخي ما لا أسمعه من أساتذة العلماء؟!" ثم خاطبه: "يا ابن أخي، ستقصُّ قصصي معك في المستقبل حين يظهر أمرك".
انتقل إلى مدرسة دار العلوم والتحق بها عام 1889م، وظل يدرس فيها حتى تخرَّج عام 1894م، درس خلالها الحساب والهندسة والجبر والفلك والطبيعة والكيمياء، كما أنه درس الفقه الحنفي.
عرفه أقرانه بميله الشديد إلى جمال الطبيعة والنظر إلى الكون، فكانوا يقولون له: كيف تحب ما لا فائدة منه؟! فكان يجيبهم بقوله:
لا يعرف الشوق إلا من يكابده ولا الصبابة إلا من يعانيها.
حياته العملية
تخرج في مدرسة دار العلوم وعُيِّن مدرسًا بمدرسة دمنهور الابتدائية، ثم نُقِلَ إلى مدرسة الناصرية الابتدائية بالجيزة، ثم المدرسة الخديوية بدرب الجماميز؛ حيث بقي فيها من 1900م حتى عام 1910م، وفي أثناء وجوده بها عكف على تعلم اللغة الإنجليزية، حتى أتقنها وأصبح يتحدث بها بطلاقة تامة.
وفي عام 1911م، اختاره أحمد باشا حشمت ناظرَ المعارف العمومية لتدريس التفسير والحديث بمدرسة دار العلوم، واختِير ضمن هيئة التدريس بالجامعة المصرية القديمة، وبسبب هذا النجاح الذي أكرمه الله به وآرائه المستنيرة، ناوأه بعض العلماء والمتفيهقين، وافترَوا عليه كذبًا وروَّجوا حوله الأقاويل، حتى استطاعوا أن يبعدوه عن الجامعة المصرية، واستمرت المحن تلاحقه، فرفضه كلُّ نظار المدارس حتى محمود فهمي النقراشي- رئيس وزراء مصر فيما بعد- لم يقبله في مدرسته، بالرغم مما كان يتمتع به من وطنية في هذا الوقت، ولم يقبله إلا رجل فرنسي، وهو ناظر المدرسة الخديوية.
واستمر يتعرض للمحن وهو يقابلها بقلب مفعَم بالإيمان الصادق والعزيمة القوية التي لم تخضع لباطل؛ فبعد إعلان الحرب عام 1914م أخرجه الإنجليز من دار العلوم، فانتقل لمدرسة العباسية الثانوية بالإسكندرية، وفي أكتوبر 1917 دُعِيَ للتدريس بالمدرسة الخديوية ثانيةً، بلغ سن المعاش في عام 1922، فوهب نفسه لتأليف الكتب وتربية الشباب تربيةً إسلاميةً.
جهوده في الإصلاح
إذا ذكرنا النهضة الحديثة نجد الشيخ طنطاوي من أبرز أعلامها الخفَّاقة وعقولها المفكرة، وإذا ذكرنا الحركة الإصلاحية في المعاهد ودور التعليم فهو واضعُ أساسِها، وهو فيلسوفٌ ومصلحٌ دينيٌّ مجددٌ وكاتبٌ مجيدٌ.
لم يكن الشيخ طنطاوي عالمًا كسائر العلماء، بل تميَّز في كل نواحي العلوم، فكان العالم الديني الوطني، كما كان العالم الاجتماعي العالمي، جمع بين الثقافتين الدينية والطبيعية والإنسانية، فمزج المسائل الدينية بالآراء الاجتماعية والسياسية، كما جاهد بقلمه ورأيه لرفعة شأن الإسلام، وكان يرمي إلى أن العلم إذا حسُن فهمُه كان أداةً صالحةً لتفهُّم روح الدين، وفي ذلك يقول:
"أيها الإخوان، أيها الأبناء من الأمم الإسلامية.. اليوم أحدثكم حديث الرحمة، تلك الرحمة التي بها قامت السماوات والأرض وما بينهما، بالرحمة أُسِّست العوالم كلها.
يقف الرجل ليلاً في الخلاء يرعى النجوم، فيراها مشرقة متلألئة بهجة تسر الناظرين، هذا الجمال أثر من آثار الرحمة وبهجة للعالمين.
تشرق الشمس وتغرب وترسل أشعتها الذهبية، فيرتفع وجه الأرض بذلك الجمال البديع، تلك من آثار الرحمات العليا مرسلات للخلائق أجمعين.
ومن أبدع الرحمات أن حركات الشمس وحركات كل كوكب لا خلل في نظامها بتقديم أو تأخير، وإلا اختلت الأعمال واصطدمت القطرات، وضل الناس سواء السبيل".
لم يقتصر نشاطه على الجوانب العلمية والاجتماعية فحسب، بل كان سياسيًّا بارعًا وكان له أثره الواضح في السياسة، فكان عضوًا في الحزب الوطني الذي أسسه الزعيم مصطفى كامل، حتى إنه لفت نظر الزعيم إلى نشاطه ووطنيته، فقال فيه: "بمثلك يا شيخ ترتقي الأمة"، وكان أول من سماه بالحكيم.
كان الشيخ طنطاوي من أخلص المخلصين لقضية البلاد واستقلالها، فأطلق العنان لقلمه ليناصر قضية بلده، فوضع كتاب "نهضة الأمة وحياتها" ونشره في جريدة (اللواء) التي كان يصدرها الحزب الوطني؛ ندَّد فيه بالدول التي تؤسس وجودها على أسنَّة الحراب وأصوات المدافع وتخريب البلاد ودك الحصون.
أثناء وجوده في المدرسة العباسية بالإسكندرية أسس جمعيةً من الطلاب أسماها "الجمعية الجوهرية" كان لها أثرها في بث الوعي القومي والثقافي بين الشباب السكندري.
جاهد بقلمه الاستعمار، فكانت مقالاته بركانًا زلزل أركان الاستعمار، والتي كانت تُنشَر في جريدة (اللواء)، وكانت تتحدث عن الأمم المستعبدة والأمم المستضعفة ووسائل الإصلاح.
كما أنه أسس "جماعة الأخوَّة الإسلامية" وكانت تضم طلاب المسلمين من بلاد الشرق الأوسط والأقصى، والذين وفدوا لمصر ليتعلموا فيها ويحصلوا على التعليم الديني منها، وظلت هذه الجمعية قائمة حتى عام 1950م، وقد رأسها الدكتور عبد الوهاب عزام عميد كلية الآداب.
ولم تقف جهود الشيخ عند ذلك فحسب بل كان عضوًا لجمعية البر والإحسان، وعضوًا في جمعية الشبان المسلمين، وعضوًا بارزًا بدائرة القاهرة الروحية، وتولى رئاسة جمعية المواساة الإسلامية، وكان أحد مؤسسيها، كما كان رئيسًا لتحرير مجلة (الإخوان المسلمين) الأسبوعية في الثلاثينيات.
لقد قام منهج الإصلاح لديه على عدة دعائم، وهي:
1- أن يسرع قادة الشعوب في تعميم مزج علوم الحياة بالدين.
2- أن تعمم آداب الدين الإسلامي.
3- أن يشجِّع قادة الأمة الصناعة والصنَّاع بترويج ما صنعوا وإطرائه والإقبال عليه.
ولقد اعتنى ببلاد العالم الإسلامي وشئونهم، والدفاع عن حريتهم؛ فكتب في جريدة (الأخبار) يوم 8 سبتمبر 1924 نداءً جاء فيه:
"نداء.. من حضرة صاحب الفضيلة الشيخ طنطاوي جوهري إلى الملوك والسادة الأشراف والأمراء والأعيان وكل ذي حمية دينية إسلامية ببلاد الملايو وسنغافورة وجزر الهند الشرقية، يستنهض فيهم الهمم العالية لإحياء العلوم الدينية".
وكان من آثر ذلك أن التركستانيين قد تأثروا بفكر وشخصية الشيخ جوهري، وبعد استقلالهم وقيام جمهوريتهم الإسلامية أنشأوا المدارس والجامعات وأطلقوا عليها اسم الشيخ طنطاوي جوهري، فسموها جامعة طنطاوية ومدارس جوهرية.
قال عنه الأستاذ عبد العزيز عطية- عضو مكتب الإرشاد بجماعة الإخوان المسلمين-: "عرفنا شيخنا بعد أن أروى من معين العربية والفقة الأكبر والمنطق، حتى قصده الكثيرون من نواحي العالم، يستمعون لآرائه، وكان أكبر همه أن يذيع رسالة السلام عن طريق تعاليم الإسلام.
وقالت فيه بنت الشاطئ: وقدم الشيخ طنطاوي جوهري تفسيره (الجواهر)، فوجدت فيه الجماهير ما يريحها من مهانة الإحساس الباهظ بالتخلف.
وفى كتاب Early Development of Mohamedanism ذكر العالم مارجيلوس قوله: "إن عنوان هذا الكتاب يذكِّرنا بكتابين نشرهما العلامة "كانت" الألماني في السلام العام، فإنه- وإن كان عالمًا في بالرياضة والفلك- لم يستعملهما في السلام العام، أما الشيخ طنطاوي جوهري فإنه أدخل فيه هذين العِلْمَين، وأضاف علم النبات والكيمياء والتشريح وعلم النفس؛ فهذه العلوم كلها قد جعلها المؤلف وسيلةً توصِّل إلى حل مشكلة السلام العام.
مؤلفاته
كان الشيخ جوهري غزيرًا في مؤلفاته؛ فقد أثرى المكتبة بمختلف العلوم التي كان لها أثرها العظيم على البشرية، ومن هذه المؤلفات:
1- الزهرة في نظام العالم والأمم؛ حيث تحدث فيها عن عجائب الزهور.
2- التاج المرصع بجواهر القرآن والعلوم، وهو عبارة عن مقدمة للتفسير، وترجم هذا الكتاب إلى التركية والفارسية والروسية.
3- نهضة الأمة وحياتها.
4- النظام والإسلام.
5- جواهر العلوم.
6- أين الإنسان؟
7- (الجواهر) في تفسير القرآن، وكتبه في 36 مجلدًا، وفي هذا التفسير طبَّق القرآن على النظريات الحديثة، واستخرج النظريات العلمية من نصوص القرآن، وانتشر هذا التفسير في بلاد الشرق الأقصى وتُرجِم لعدة لغات.
هذا غير المؤلفات الكثيرة التي لم يتسع المقام لذكرها، والمقالات التي امتلأت بها الصحف.
الشيخ طنطاوي والدعوة إلى السلام وجائزة نوبل
لقد دعا الشيخ طنطاوي إلى السلام العام، وألَّف من أجل ذلك كتابيه "أين الإنسان؟!" و"أحلام في السياسة.. وكيف يتحقق السلام العام؟"، وهذان الكتابان يستخرجان السلام العام على أساس الفطرة الإنسانية، ودعا فيهما إلى مفهوم الإنسانية الحق، التي يقوم فيها السلام العام على أساس الفطرة الإنسانية، وعلى المحبة وتبادل المنافع.
وتقدم الشيخ بنفسه إلى لجنة نوبل بالبرلمان النرويجي لنيل هذه الجائزة، فسألت عنه الخارجية المصرية- والتي سألت بدورها وزارة المعارف المصرية- فاهتمت بترشيح الشيخ لنيل الجائزة كأول مصري يرشَّح لهذه الجائزة، وقد تقدم بعدد من الكتب يدعو فيها إلى السلام، وكان من ضمن شروط التقدم أن يكون المرشح من أساتذة الجامعة أو يرشحه أحد الوزراء، أو عضوًا في البرلمان، أو أستاذًا جامعيًّا، ومن ثم تطوَّع لترشيحه الدكتور مصطفى مشرفة عميد كلية العلوم آنذاك، والدكتور عبد الحميد سعيد عضو البرلمان والرئيس العام لجمعية الشبان المسلمين.
فأخذت الخارجية بهذا الترشيح، وأرسلت مؤلفات الشيخ للبرلمان النرويجي مشفوعًا بتقرير عن جهوده، وشهادات علماء إنجلترا وفرنسا وإيطاليا وألمانيا، غير أن القدَر لم يمْهل الشيخ لنيل الجائزة، فتوفاه الله قبل أن تعلن.
الشيخ طنطاوي.. ودعوة الإخوان المسلمين
ما كادت دعوة الإخوان المسلمين تنشأ عام 1928م في الإسماعيلية إلا وأخذت في الانتشار وسط الناس؛ لاعتدالها في الفكر، ووسطيتها في المنهج، وأخذِها بشمول الإسلام، ثم انتقلت في أكتوبر 1932م إلى القاهرة بانتقال الأستاذ البنا، والتي وجدت قلوبًا ذكيةً طاهرةً، تلقفتها بكل حب؛ فأخذت في الانتشار بين مختلف طبقات المجتمع حتى بين العلماء، ومن بينهم الشيخ طنطاوي جوهري، الذي سمع عن الشيخ حسن البنا، فذهب إليه وسأله: "إلام تدعو؟! قال: أدعو إلى القرآن، فقال: دع هذا اللفظ الكريم من حديثنا؛ فإن هذا اللفظ مظلوم ظلمًا بيِّنًا، فما من فرقة قامت في الدولة الإسلامية مهما كانت زائفةً عن الإسلام إلا وادَّعت أنها تدعو إلى القرآن، فأجبني بتفاصيل ما تدعو إليه في كل ناحية من نواحي الحياة، قال فشرح لي تفاصيل دعوته فوجدتها في حدود كتاب الله..".
وبعد اقتناع الشيخ طنطاوي جوهري بالدعوة قال له الشيخ البنا: يا سيدي الأستاذ.. إنك أستاذنا وأستاذ الجميع، وأنت حكيم الإسلام، وأراك أحق بمنصب الإرشاد لهذه الدعوة مني، وهذه يدي أبايعك.. فقال الشيخ: لا يا أخي.. أنت صاحب الدعوة، وأنت أقدر عليها، وأنت أجدر بها، وأنا أبايعك على ذلك، ومدَّ يده فبايعه، ولم ينكث- رحمه الله- بيعته إلى أن لقي ربه.
وفي ذات يوم قال له بعض العلماء: كيف تقبل وأنت العالم الجليل أن تكون تابعًا لمدرس أقل شأنًا منك؟ فردَّ عليه بقوله: لو تعلمون عن هذا الشخص ما أعلم ما ملكتم إلا أن تبايعوه على نصرة الإسلام، ثم قال: "إن حسن البنا في نظري مزاج عجيب من التقوى والدهاء السياسي، إنه قلب عليّ وعقل معاوية، وإنه أضفى على دعوة اليقظة عنصر "الجندية"، ورد إلى الحركة الوطنية عنصر "الإسلامية"، وبذلك يعد هذا الجيل الإسلامي الحاضر النسخة الإسلامية الثانية الكاملة المعالم بعد الجيل الإسلامي الأول في عهد الرسول- صلى الله عليه وسلم.
اختير الشيخ طنطاوي ليكون ممثلاً عن إخوان القاهرة في مجلس شورى الإخوان، والذي عُقد في الفترة من يوم السبت 11 من ذي الحجة 1353هـ الموافق 16 من مارس 1935م حتى يوم الإثنين 13 من ذي الحجة 1353هـ الموافق 18 من مارس 1935م، وتولى رئاسة تحرير صحيفة (الإخوان المسلمين)، والتي صدر العدد الأول منها في 22 من صفر 1352هـ الموافق 15 من يونيو 1933م، وكان أول مقال فيها للشيخ بعنوان: "إلى القراء الكرام".
وخُصِّص له في المركز العام درسٌ في تفسير القرآن الكريم، كان يفسر القرآن بالعلوم الحديثة، وهو لون لم يكن مألوفًا في ذلك الوقت، وكان الرجل بارعًا في التفسير وفي الإقناع؛ حيث كان على قدم راسخة في التفسير وفي العلوم الكونية معًا.
وكان أكثر الآثار الواضحة للشيخ طنطاوي داخل الدعوة أنه كان أول من احتضن أول مجموعة من طلبة الجامعة وأرشدهم إلى طريق دعوة الإخوان المسلمين؛ ففي 1933م- وأثناء زيارة الإمام البنا للوجه البحري- قامت مجموعة من طلاب المدارس العليا بزيارة الشيخ طنطاوي جوهري، وكانت تتألف من خمسة طلاب ينتمون إلى الكليات الجامعية المختلفة، وكانوا قد نجحوا في تأليف رابطة أسموها "شباب الإسلام"، وكانوا قد ذهبوا إلى الشيخ حامد سعفان والذي حلل لهم الوضع، ثم قال لهم: "سأختصر لكم الطريق وأنصح لكم بالاتصال بالإخوان المسلمين، تلك الجماعة الناشئة الحية، التي لمست من مجلتها روح الإسلام في حرارته الأولى، واستروحت من أسلوبها نفحات الإخلاص والصدق والجهاد، ويكفي أن يعمل في ظل هذه الجماعة شخصية أجلُّها وأحترمها فوق علماء العصر، وهو الشيخ طنطاوي جوهري رئيس تحرير مجلة الإخوان، وهو عالم عظيم عرض الإسلام في كتبه وآرائه..
فذهبوا له فاستبشر بهم خيرًا، وقال: إذًا فقد بدأ عصر جديد، ولاحت نهضة جديدة، وطلع فجر منشود"، ثم قال: لا تستصغروا أنفسكم يا أبنائي؛ فإنكم قوة لو استقامت لأقامت الدولة وأقعدتها، وإنكم شعلة لو أُضرمت لأحرقت وأنارت، وما دمتم قد عرفتم الإسلام ووُفِّقتم إلى الدعوة إليه والعمل له فقد عرفتم الطريق، وآن لمصر أن تتطور، وآن للشعب أن ينهض، وإن الإخوان حركة جديدة تستلهم روح الإسلام وتترسَّم مناهجه في تربية الأمة وخلق الرجال على نمط الدعوة الإسلامية الأولى.
ثم قال: إن أهم ما يميز البنا عن غيره أن كل من عرفهم من الزعماء أحد رجلين: إما سياسي حظه من الإسلام قليل أو زعيم ديني حظه من السياسة يسير؛ ولهذا لم تنجح الحركات الإصلاحية في مصر، أما الإمام البنا فهو يجمع بين الأمْرَين؛ فهو فقيه ممتاز وسياسي بارع.
ولم ينتظر الشيخ طنطاوي جوهري حضور الإمام البنا؛ فبعث إليه بخطاب زفَّ إليه تلك البشرى وسماها "فتح مبين" وكانت بحق فتحًا مبينًا على الدعوة، وأخذ يستحثُّ الإمام البنا أن يعود سريعًا إلى القاهرة، والتقى بهم الإمام البنا في القاهرة وبايعوه على العمل للإسلام، وكان من أولهم وأسبقهم على البيعة إخوة ستة، هم:
1- محمد عبد الحميد أحمد "كلية الآداب".
2- إبراهيم أبو النجار الجزار "كلية الطب".
3- أحمد مصطفى "التجارة العليا".
4- محمد جمال الفندي "كلية العلوم".
5- محمد رشاد الهواري "كلية الحقوق".
6- محمد صبري "الزراعة العليا".
وظل الشيخ طنطاوي شامةً في تاريخ الدعوة، يعمل لها دون كلل أو ملل، وبالرغم من تقدم سنه غير أن هذا لم يمنعه من العمل للإسلام وخدمته بأي طريقة.
رحيله
في صباح الجمعة 3 ذي الحجة 1358هـ الموافق 12 يناير 1940 فاضت روحه إلى بارئها، بعد رحلة طويلة من في خدمة الإسلام والعلم، وما كاد المسلمون يسمعون بوفاته حتى أقبل إليه خلق عظيم لتوديعه الوداع الأخير، وحضر ممثلو الجماعات والهيئات الإسلامية، وبعد أن وُوري التراب تبادل الخطباء المراثي التي أدمت القلوب وأفاضت الدموع، وقد نعته الصحف كصحيفة (المقطم) و(الشبان المسلمين) و(الإخوان المسلمين).
أضف تعليقك